فصل: بَابُ مَا لَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ عَلَى الْمَرْأَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ طَلَاقِ أَهْلِ الْحَرْبِ:

(قَالَ) وَإِذَا سُبِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْحَرْبِيَّيْنِ وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ انْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ النِّكَاحِ كَانَ حُكْمًا لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ وَهُوَ مُنَافٍ لِعِصْمَةِ النِّكَاحِ، وَالْفُرْقَةُ الْوَاقِعَةُ بِسَبَبِ الْمُنَافِي لِلنِّكَاحِ لَا تَكُونُ طَلَاقًا كَالْفُرْقَةِ بِالْمَحْرَمِيَّةِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا السَّبَبَ يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَانِ، وَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا كَالْفُرْقَةِ بِسَبَبِ مِلْكِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ؛ وَفِقْهُهُ أَنَّهُ لَيْسَ إلَيْهَا مِنْ الطَّلَاقِ شَيْءٌ فَكُلُّ سَبَبٍ يَتِمُّ بِهَا لَا يَكُونُ طَلَاقًا فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ هَذَا لَا يَقَعُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ لَا إلَى عِدَّةٍ فَإِنَّهُ إنْ سُبِيَ الزَّوْجُ أَوَّلًا فَلَا عِدَّةَ عَلَى الْحَرْبِيَّةِ وَإِنْ سُبِيَتْ الْمَرْأَةُ فَلَا عِدَّةَ عَلَى الْمَسْبِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَحِلُّ لِلسَّابِي بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ بِالنَّصِّ فَإِنْ سُبِيَ الْآخَرُ بَعْدَهُ لَمْ يَعُدْ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا؛ لِارْتِفَاعِهِ بِالسَّبَبِ الْمُنَافِي، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي عِدَّتِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا سُبِيَا أَوْ سُبِيَ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّهَا إنْ سُبِيَتْ فَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ أَهْلًا لِمِلْكِيَّةِ الْمَالِ وَإِنْ سُبِيَ الزَّوْجُ فَالدَّيْنُ عَلَى الْحُرِّ لَا يَبْقَى بَعْدَ السَّبْيِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَى الْمَمْلُوكِ لَا يَجِبُ إلَّا شَاغِلًا لِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَحِينَ وَجَبَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مَالًا فَلَا تَشْتَغِلُ مَالِيَّتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالدَّيْنِ؛ فَلِهَذَا سَقَطَ، وَإِنْ لَمْ يُسْبَيَا وَلَكِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَخَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ هَذَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا، أَمَّا إذَا كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي أَسْلَمَ؛
فَلِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى الْحَرْبِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا عِدَّةَ عَلَى الْمُهَاجِرَةِ أَيْضًا وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ، فَهَذِهِ الْعِدَّةُ لَا تُوجِبُ مِلْكَ الْيَدِ لِلْحَرْبِيِّ عَلَيْهَا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعِدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِهَا.
وَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ بَعْدَهَا وَخَرَجَ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا أَيْضًا، وَقِيلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْآخَرُ يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اشْتَرَى امْرَأَتَهُ بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَطَلَّقَهَا فِي الْعِدَّةِ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْآخَرِ يَقَعُ وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا ثُمَّ أَعْتَقَتْهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ ارْتَدَّ الزَّوْجُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا، فَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلِ أَنَّهَا صَارَتْ بِحَالٍ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ حِينَ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوْ بَقِيَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ مَلَكَهَا بِالشِّرَاءِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى زَوَالِ مِلْكِ الْيَدِ الَّذِي كَانَتْ بِهِ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ وَبَعْدَمَا زَالَ الْمِلْكُ لَا يَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ، وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، أَوْ عَدَمُ ظُهُورِ الْعِدَّةِ فِي حَقِّهِ حِينَ اشْتَرَاهَا وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ حِينَ أَعْتَقَهَا، وَحِينَ خَرَجَ إلَى دَارِنَا مُسْلِمًا، وَهِيَ فِي عِدَّتِهِ بَعْدُ فَيَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِالْإِبَاءِ مِنْ الْآخَرِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ؛ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ، ثُمَّ إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا أَنْ تُؤَاخِذَهُ بِمَهْرِهَا إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ قَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ فَيَبْقَى بَعْدَ إسْلَامِهَا وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَكَانَتْ هِيَ الَّتِي خَرَجَتْ أَوَّلًا مُسْلِمَةً فَلَهَا عَلَى الزَّوْجِ نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُحَالُ بِالْفُرْقَةِ عَلَى جَانِبِ الزَّوْجِ حِينَ أَصَرَّ عَلَى شِرْكِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ إسْلَامِهَا وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ أَوَّلًا مُسْلِمًا، فَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَإِذَا سُبِيَا مَعًا، فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ؛ لِعَدَمِ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.
(قَالَ): وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ كِتَابِيَّةً فِي دَارِ الْحَرْبِ فَتَمَجَّسَتْ، انْتَقَضَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ تَمَجُّسَهَا إذَا كَانَتْ تَحْتَ مُسْلِمٍ بِمَنْزِلَةِ رِدَّتِهَا، وَطَلَاقُهُ يَقَعُ عَلَيْهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ كَمَا لَوْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَتَبَايَنْ بِهِمَا الدَّارُ، وَهُوَ الْمُنَافِي لِلْعِصْمَةِ وَالْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ بِالْإِسْلَامِ فَلَا تَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ فَإِنْ خَرَجَ الزَّوْجُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَبَقِيَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا؛ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَإِنْ خَرَجَ الزَّوْجَانِ إلَى دَارِنَا مُسْتَأْمَنَيْنِ ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، فَهِيَ امْرَأَتُهُ حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِي عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْآخَرِ مِنْهُمَا، فَإِذَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ، وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ بَيْنَهُمَا، وَانْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ فَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ؛ لِأَنَّ الْمُصِرَّ مِنْهُمَا عَلَى شِرْكِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ؟ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَقِيقَةً فِي الْمَنْعِ مِنْ وُقُوعِ طَلَاقِهِ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ إذَا صَارَ أَحَدُهُمَا ذِمِّيًّا وَأَبَى الْآخَرُ، فَالْحُكْمُ فِيمَا وَصَفْنَا مِنْ الْفُرْقَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَفِي دَارِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَمَا سِوَى هَذَا مِنْ مَسَائِلِ الْبَابِ قَدْ بَيَّنَّا شَرْحَهَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

.بَابُ مَا لَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ عَلَى الْمَرْأَةِ:

(قَالَ): وَإِذَا اشْتَرَتْ الْحُرَّةُ زَوْجَهَا وَهُوَ عَبْدٌ أَوْ مَلَكَتْهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ بِمِيرَاثٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ مُنَافٍ لِمِلْكِ النِّكَاحِ، وَيَتَحَقَّقُ هَذَا الْمُنَافِي مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ فَتَكُونُ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، وَكَذَلِكَ الْحُرُّ يَمْلِكُ امْرَأَتَهُ أَوْ بَعْضَهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ رَقَبَتِهَا مُنَافٍ لِمِلْكِ النِّكَاحِ شَرْعًا؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مَشْرُوعٌ؛ لِإِثْبَاتِ الْحِلِّ بِهِ وَهِيَ تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَيَنْتَفِي بِتَقَرُّرِهِ مِلْكُ النِّكَاحِ ثُمَّ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ رَقَبَتَهَا كَمَا يُنَافِي أَصْلَ مِلْكِ النِّكَاحِ يُنَافِي مِلْكَ الْيَدِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَبِهِ كَانَتْ مَحَلًّا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَلِهَذَا لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا بَعْدَ هَذَا، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ يُجَامِعُهَا أَبُو زَوْجِهَا أَوْ ابْنُهُ أَوْ جَامَعَ الزَّوْجُ أُمَّهَا أَوْ ابْنَتَهَا فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ بِالْمُصَاهَرَةِ تُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً كَالْمَحْرَمِيَّةِ بِالرَّضَاعِ وَالنَّسَبِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، إنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الطَّلَاقِ حُرْمَةٌ تَرْتَفِعُ بِإِصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي، وَقَدْ ثَبَتَتْ بَيْنَهُمَا حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ لَا تَرْتَفِعُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ مَعَ هَذَا ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ الَّتِي تَرْتَفِعُ بِالزَّوْجِ الثَّانِي وَمَتَى خَلَا السَّبَبُ عَنْ مُوجِبِهِ كَانَ لَغْوًا.
(قَالَ) وَأَهْلُ الذِّمَّةِ وَأَهْلُ الْإِسْلَامِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُرْمَةِ سَوَاءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِلَّةٌ مِنْ مِلَلِ الْكُفْرِ يَسْتَحِلُّ ذَلِكَ أَهْلُهَا فِي دِينِهِمْ فَيُخَلَّى عَنْهُمْ وَمَا اسْتَحَلُّوا مِنْ ذَلِكَ لِمَكَانِ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَجُوسِيِّ يَتَزَوَّجُ أُمَّهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلُ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَا يُتْرَكُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْحَرَامِ فِي النِّكَاحِ وَالْحُكْمُ يَجْرِي عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ كَمَا يَجْرِي عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ اخْتَصَمُوا أَوْ لَمْ يَخْتَصِمُوا وَهَذَا الْقَوْلُ لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ خَاصَّةً وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مَعَ سَائِرِ مَا فِي الْبَابِ مِنْ الْمَسَائِلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

.بَابٌ مِنْ الطَّلَاقِ:

(قَالَ): رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، تَطْلُقُ ثَلَاثًا عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: تَقَعُ وَاحِدَةٌ بِقَوْلِهِ طَالِقٌ فَتَبِينُ لَا إلَى عِدَّةٍ وَقَوْلُهُ، ثَلَاثًا يُصَادِفُهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ فَلَا يَقَعُ بِهَا شَيْءٌ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الطَّلَاقُ مَتَى قُرِنَ بِالْعَدَدِ فَالْوُقُوعُ بِذِكْرِ الْعَدَدِ: لِأَنَّ الْمُوَقَّعَ هُوَ الْعَدَدُ فَإِذَا صَرَّحَ بِذِكْرِ الْعَدَدِ كَانَ هُوَ الْعَامِلَ دُونَ ذِكْرِ الْوَصْفِ وَلِهَذَا لَوْ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ قَوْلِهِ طَالِقٌ قَبْلَ قَوْلِهِ ثَلَاثًا، لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْكُلَّ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْحُكْمِ فَإِنَّ إيقَاعَ الثَّلَاثِ لَا يَتَأَتَّى بِعِبَارَةٍ أَوْجَزَ مِنْ هَذَا، وَالْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ لَا يُفْصَلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ؛ لِأَنَّهَا كَلِمَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ، فَأَمَّا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، بَانَتْ بِالْأُولَى، وَكَانَتْ الثِّنْتَانِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٍ وَإِبْرَاهِيمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إذَا كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ: يَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ الْوَاحِدَ يَجْمَعُ الْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةَ وَيَجْعَلُهَا كَكَلَامٍ وَاحِدٍ وَلَكِنَّا نَقُولُ: كُلُّ كَلِمَةٍ إيقَاعٌ عَلَى حِدَةٍ فَلَا تَعْمَلُ إلَّا فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لَهُ فَإِذَا بَانَتْ لَا إلَى عِدَّةٍ، لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لِلْوُقُوعِ عَلَيْهَا ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَبِينُ بِالْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ الْكَلَامِ الثَّانِي وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْكَلَامِ الثَّانِي لِجَوَازِ أَنْ يُلْحِقَ بِآخِرِ كَلَامِهِ شَرْطًا أَوْ اسْتِثْنَاءً وَلَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ ذِكْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَهُوَ الْوَاوُ، فَأَمَّا بِدُونِهِ لَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَحِقُ بِهِ الشَّرْطُ وَالِاسْتِثْنَاءُ.
(قَالَ) وَلَوْ قَالَ لَهَا: رَأْسُكِ طَالِقٌ، كَانَتْ طَالِقًا لَا بِإِضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى الرَّأْسِ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: الرَّأْسُ مِنْكِ طَالِقٌ أَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهَا وَقَالَ: هَذَا الْعُضْوُ مِنْكِ طَالِقٌ، لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الرَّأْسَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ يُقَالُ هَؤُلَاءِ رُءُوسُ الْقَوْمِ وَمَعَ الْإِضَافَةِ إلَى الشَّخْصِ أَيْضًا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ يَقُولُ الرَّجُلُ: أَمْرِي حَسَنٌ مَا دَامَ رَأْسُك أَيْ مَا دُمْتَ بَاقِيًا وَكَذَلِكَ الْوَجْهُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: يَا وَجْهَ الْعَرَبِ، وَكَذَلِكَ الْجَسَدُ وَالْبَدَنُ وَالرَّقَبَةُ وَالْعُنُقُ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} وَكَذَلِكَ الْفَرْجُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَعَنَ اللَّهُ الْفُرُوجَ عَلَى السُّرُوجِ» وَكَذَلِكَ الرُّوحُ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ فَصَارَ هُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُضِيفًا الطَّلَاقَ إلَى جَمِيعِهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَأَمَّا إذَا قَالَ يَدُكِ طَالِقٌ أَوْ رِجْلُكِ طَالِقٌ أَوْ أُصْبُعُكِ طَالِقٌ، لَا يَقَعُ شَيْءٌ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: تَطْلُقُ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى جُزْءٍ مُسْتَمْتَعٍ بِهِ مِنْهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ كَالْوَجْهِ وَالرَّأْسِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَبْنَى الطَّلَاقِ عَلَى الْغَلَبَةِ وَالسِّرَايَةِ فَإِذَا أَوْقَعَهُ عَلَى جُزْءٍ مِنْهَا، يَسْرِي إلَى جَمِيعِهَا كَالْجُزْءِ الشَّائِعِ وَبِهِ فَارَقَ النِّكَاحَ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى السِّرَايَةِ وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ إضَافَتُهُ عِنْدِي إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ إذَا اجْتَمَعَا فِي الْمَحَلِّ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْحُرْمَةِ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ شَهْرًا،
يَقَعُ مُؤَبَّدًا وَلَوْ قَالَ: تَزَوَّجْتُكِ شَهْرًا، لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ فَيُجْعَلُ ذِكْرُ جُزْءٍ مِنْهَا كَذِكْرِ جُزْءٍ مِنْ الزَّمَانِ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأُصْبُعَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِإِضَافَةِ النِّكَاحِ إلَيْهِ، فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ لِمَعْنًى وَهُوَ أَنَّهُ تَبَعٌ فِي حُكْمِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَلِهَذَا صَحَّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أُصْبُعٌ وَيَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ الْأُصْبُعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ يَرِدُ عَلَيْهَا فَتَكُونُ الْأَطْرَافُ فِيهِ تَبَعًا كَمَا فِي مِلْكِ الرَّقَبَةِ شِرَاءً وَمِلْكِ الْقِصَاصِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَبَعٌ، فَبِذِكْرِ الْأَصْلِ، يَصِيرُ التَّبَعُ مَذْكُورًا، فَأَمَّا بِذِكْرِ التَّبَعِ، لَا يَصِيرُ الْأَصْلُ مَذْكُورًا وَإِذَا كَانَ تَبَعًا، لَا يَكُونُ مَحَلُّ الْإِضَافَةِ التَّصَرُّفَ إلَيْهِ، وَالسِّرَايَةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بَعْدَ صِحَّةِ الْإِضَافَةِ إلَى مَحَلِّهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ أَنَّ الْوُقُوعَ لَيْسَ بِطَرِيقِ السِّرَايَةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا ذُكِرَ عِبَارَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ حَتَّى لَوْ كَانَ عُرْفًا.
ظَاهِرُ الْقَوْمِ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ الْيَدَ عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ نَقُولُ: يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي حَقِّهِمْ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْكَلَامِ هُنَا بِطَرِيقِ الْإِضْمَارِ وَهُوَ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِيقَاعَ عَلَى الْبَدَنِ لِتَصْحِيحِ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا كَلَامًا مُسْتَقِيمًا، لَصَحَّ إضَافَةُ النِّكَاحِ إلَى الْيَدِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضَى تَبَعٌ لِلْمُقْتَضِي، وَجَعْلُ الْأَصْلِ تَبَعًا لِلْأُصْبُعِ مُتَعَذِّرٌ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَضَافَ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ كَالصِّنْفِ وَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الشَّائِعَ لَيْسَ بِتَبَعٍ وَهُوَ مَحَلٌّ لِإِضَافَةِ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ إلَيْهِ فَإِذَا صَحَّتْ الْإِضَافَةُ إلَى مَحَلِّهَا، ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْكُلِّ بِطَرِيقِ السِّرَايَةِ أَوْ بِطَرِيقِ أَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ التَّجْزِيءَ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ، وَذِكْرُ جُزْءِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ كَذِكْرِ الْكُلِّ وَلِهَذَا صَحَّتْ إضَافَةُ النِّكَاحِ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ عِنْدَنَا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ شَهْرًا؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ صَحَّتْ إلَى مَحَلِّهَا، وَالطَّلَاقُ بَعْدَ الْوُقُوعِ لَا يَحْتَمِلُ الرَّفْعَ فَلَا يَنْعَدِمُ بِذِكْرِ التَّوْقِيتِ فِيمَا وَرَاءَ الْمُدَّةِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الرَّفْعَ فَبِالتَّوْقِيتِ يَنْعَدِمُ فِيمَا وَرَاءَ الْوَقْتِ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ مُوَقَّتًا.
وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لَوْ قَالَ: بُضْعُكِ طَالِقٌ، يَقَعُ وَهَذَا تَصْحِيفٌ إنَّمَا هُوَ بَعْضُكِ طَالِقٌ أَوْ نِصْفُكِ طَالِقٌ فَأَمَّا الْبُضْعُ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا لَوْ قَالَ: ظَهْرُكِ طَالِقٌ أَوْ بَطْنُك طَالِقٌ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ النِّكَاحُ بِدُونِهِمَا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَى مَا ذُكِرَ بَعْدَ هَذَا فِي بَابِ الظِّهَارِ أَنَّهُ إذَا قَالَ: ظَهْرُكِ أَوْ بَطْنُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا؛ لِأَنَّ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ لَا يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ.
(قَالَ) وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَلِأَجْنَبِيَّةٍ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ فَإِنْ قَالَ: عَنَيْت امْرَأَتِي، وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، وَإِلَّا لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ يَصْلُحُ عِبَارَةً عَنْ امْرَأَتِهِ وَعَنْ الْمَرْأَةِ الْأُخْرَى فَكَانَ هَذَا كِنَايَةً مِنْ حَيْثُ الْمَحَلُّ وَكَمَا أَنَّ أَلْفَاظَ الْكِنَايَةِ لَا تَعْمَلُ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَكَذَلِكَ الْكِنَايَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَحَلُّ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ امْرَأَتُهُ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَيَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا عَنِيَ امْرَأَتَهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْكِنَايَاتِ.
(قَالَ) وَلَوْ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ: بَيْنَكُنَّ تَطْلِيقَةٌ، تَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رُبْعَ تَطْلِيقَةٍ، وَرُبْعُ التَّطْلِيقَةِ كَمَالُهَا فَإِنَّ التَّطْلِيقَةَ الْوَاحِدَةَ لَا يَتَجَزَّأُ وُقُوعُهَا، وَلَوْ قَالَ: بَيْنَكُنَّ تَطْلِيقَتَانِ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يُصِيبُهَا نِصْفُ تَطْلِيقَةٍ إلَّا أَنْ يَقُولَ: عَنَيْت أَنَّ كُلَّ تَطْلِيقَةٍ بَيْنَهُنَّ، فَحِينَئِذٍ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَطْلِيقَتَانِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُوقِعًا عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ رُبْعَ تَطْلِيقَةٍ وَرُبْعَ تَطْلِيقَةٍ أُخْرَى وَلَكِنْ مَا لَمْ يَنْوِ، لَا يُحْمَلُ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ، وَالْقِسْمَةُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ بَيْنَ الْأَشْخَاصِ تَكُونُ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ إذَا عَنِي قِسْمَةَ كُلِّ تَطْلِيقَةٍ فَقَدْ شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: بَيْنَكُنَّ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ أَوْ أَرْبَعُ تَطْلِيقَاتٍ، تَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً إلَّا أَنْ يَقُولَ: عَنَيْتُ أَنَّ كُلَّ تَطْلِيقَةٍ بَيْنَهُنَّ فَحِينَئِذٍ تَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا وَلَوْ قَالَ: بَيْنَكُنَّ خَمْسُ تَطْلِيقَاتٍ، تَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثِنْتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يُصِيبُهَا تَطْلِيقَةٌ وَرُبْعٌ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ أَوْ ثَمَانٌ وَإِنْ قَالَ: بَيْنَكُنَّ تِسْعُ تَطْلِيقَاتٍ تَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يُصِيبُهَا بِالْقِسْمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَرُبْعُ تَطْلِيقَةٍ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَشْرَكْتُكُنَّ فِي ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فَلَفْظُ الْإِشْرَاكِ وَلَفْظُ الْبَيْنِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ ثُمَّ قَالَ لِثَالِثَةٍ: أَشْرَكْتُكِ فِيمَا أَوْقَعْتُ عَلَيْهِمَا، يَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَانِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُشْرِكًا لَهَا فِي كُلِّ تَطْلِيقَةٍ.
(قَالَ): رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً، فَهِيَ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُقَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا} مَعْنَاهُ تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَامًا وَمَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى هُنَا ثِنْتَانِ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثِنْتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ إلَّا عَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ: اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ وَلَكِنَّا نَقُولُ طَرِيقُ الِاسْتِثْنَاءِ مَا قُلْنَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى فَشَرْطُ صِحَّتِهِ أَنْ يَبْقَى وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى شَيْءٌ حَتَّى يَجْعَلَ كَلَامَهُ عِبَارَةً عَنْهُ، وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ وَعَلَى قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ النَّحْوِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى الِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنْ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَكَانَ الْكَلَامُ مُتَنَاوِلًا لَهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ فِي الْعُمُومِ وَفِي ذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ، وَبِأَنْ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ إذَا كَانَ مُوَافِقًا لِمَذْهَبِهِمْ كَاسْتِثْنَاءِ الْكُسُورِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ كَمْ يَقَعُ وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ كَمَا لَا تَتَجَزَّأُ فِي الْإِيقَاعِ لَا تَتَجَزَّأُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إلَّا وَاحِدَةً وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَطْلُقُ ثَلَاثًا: لِأَنَّ فِي الْإِيقَاعِ إنَّمَا لَا يَتَجَزَّأُ لِمَعْنًى فِي الْمُوقِعِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فَيَتَجَزَّأُ فِيهِ وَإِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ، صَارَ كَلَامُهُ عِبَارَةً عَنْ تَطْلِيقَتَيْنِ وَنِصْفٍ فَيَكُونُ ثَلَاثًا.
(قَالَ): وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا، تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى جَمِيعَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ إنْ جُعِلَ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، لَا يَبْقَى بَعْدَ اسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ شَيْءٌ؛ لِيَكُونَ كَلَامُهُ عِبَارَةً عَنْهُ، وَإِنْ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ، فَذَلِكَ لَا يَعُمُّ الْكُلَّ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ نَسْخًا لَا تَخْصِيصًا، وَظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَمَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ رُجُوعٌ، وَالرُّجُوعُ عَنْ الْكُلِّ بَاطِلٌ، وَهَذَا وَهْمٌ فَقَدْ بَطَلَ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ فِي الْوَصِيَّةِ أَيْضًا، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ فَدَلَّ أَنَّ الطَّرِيقَ مَا قُلْنَا.
(قَالَ): وَإِنْ قَالَ لَهَا وَقَدْ دَخَلَ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا وَاحِدَةً، تَطْلُقُ ثَلَاثًا مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ فَرَّقَ الْكَلَامَ، فَيَكُونُ هُوَ مُسْتَثْنِيًا جَمِيعَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ فِي آخِرِ كَلِمَاتِهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ ذَكَرَهُ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَلَوْ قَالَ، أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ بَعْضَ الْكَلِمَاتِ عَلَى الْبَعْضِ، وَالْعَطْفُ لِلِاشْتِرَاكِ وَعِنْدَ ذَلِكَ صَارَ مُسْتَثْنِيًا لِلْكُلِّ فَكَأَنَّهُ قَالَ؛ إلَّا ثَلَاثًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَقَعُ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إلَّا وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً، صَارَ مُسْتَثْنِيًا لِلِاثْنَتَيْنِ، فَكَانَ صَحِيحًا فَإِنَّمَا بَطَلَ اسْتِثْنَاءُ الثَّالِثَةِ فَقَطْ.
(قَالَ) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً إلَّا نِصْفَهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِنْهَا تَطْلِيقَةٌ تَامَّةٌ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَنَّ التَّطْلِيقَةَ تَتَجَزَّأُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَا تَتَجَزَّأُ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ لِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ وَهَذَا لَا يَصِحُّ، وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ وَثِنْتَيْنِ إلَّا ثِنْتَيْنِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَحِيحٌ عِنْدَنَا، وَتَطْلُقُ ثِنْتَيْنِ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى أَحَدَ الْكَلَامَيْنِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لِتَصْحِيحِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وَجْهٌ، وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَثْنِيًا مِنْ كُلِّ كَلَامٍ تَطْلِيقَةً، وَكَلَامُ الْعَاقِلِ يَجِبُ تَصْحِيحُهُ مَا أَمْكَنَ، وَفِي نَوَادِرِ هِشَامٍ لَوْ قَالَ: ثِنْتَيْنِ وَثِنْتَيْنِ إلَّا ثَلَاثًا، تَطْلُقُ ثَلَاثًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى أَحَدَ الْكَلَامَيْنِ وَبَعْضَ الْآخَرِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِ بَعْضِ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ دُونَ الْبَعْضِ، وَفِيهِ إشْكَالٌ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَثْنِيًا مِنْ كُلِّ كَلَامٍ تَطْلِيقَةً وَنِصْفًا، فَالتَّطْلِيقَةُ عِنْدَهُ تَتَجَزَّأُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ ثِنْتَانِ بِهَذَا الطَّرِيقِ.
(قَالَ): وَإِذَا طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً، فَطَلَاقُهُ يَقَعُ عَلَيْهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَكَذَلِكَ الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ، وَإِنْ قَذَفَهَا، لَاعَنَهَا، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا تَوَارَثَا؛ لِبَقَاءِ مِلْكِ النِّكَاحِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا ظِهَارٌ وَلَا إيلَاءٌ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَشْبِيهِ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ، وَهَذَا تَشْبِيهُ الْمُحَرَّمَةِ بِالْمُحَلَّلَةِ، وَالْمَوْلَى مُضَارٌ مُتَعَنِّتٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمْنَعُ حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ، وَبَعْدَ الْبَيْنُونَةِ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْجِمَاعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَذَفَهَا، لَمْ يُلَاعِنْهَا، وَكَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ مَشْرُوعٌ؛ لِقَطْعِ النِّكَاحِ وَقَدْ انْقَطَعَ النِّكَاحُ بِالْبَيْنُونَةِ.
(قَالَ): رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ فَدَخَلَتْ الدَّارَ، لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ فِي الْمِلْكِ قَدْ صَحَّ، وَالشَّرْطُ وُجِدَ فِي الْمِلْكِ فَيَنْزِلُ الْجَزَاءُ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ، فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ لَيْسَ بِطَلَاقٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاَلَّذِي أَوْقَعَهُ طَلَاقٌ فَكَانَ غَيْرُ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ غَيْرُ وَاصِلٍ إلَى الْمَحَلِّ، فَلَا يُعْتَبَرُ؛ لِبَقَائِهِ مُتَعَلِّقًا قِيَامَ الْمَحَلِّ.
وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمَحَلِّ مَحَلًّا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يَصِلُ إلَيْهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ، يَكُونُ مُظَاهِرًا مِنْهَا، إذَا دَخَلَتْ الدَّارَ، وَلَوْ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ إصَابَةِ زَوْجٍ آخَرَ فَدَخَلَتْ الدَّارَ، تَطْلُقُ ثَلَاثًا، فَإِذَا كَانَ وُقُوعُ بَعْضِ الطَّلْقَاتِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ التَّعْلِيقِ فِي الثَّلَاثِ، فَكَذَلِكَ فِي وُقُوعِ الْكُلِّ، وَحُجَّتُنَا مَا عَلَّلَ بِهِ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمَّا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَقَدْ ذَهَبَ تَطْلِيقَاتُ ذَلِكَ الْمِلْكِ كُلِّهِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ انْعِقَادَ هَذِهِ الْيَمِينِ بِاعْتِبَارِ التَّطْلِيقَاتِ الْمَمْلُوكَةِ فَإِنَّ الْيَمِينَ بِالطَّلَاقِ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا فِي الْمِلْكِ، أَوْ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ وَلَمْ تُوجَدْ الْإِضَافَةُ هُنَا، فَكَانَ انْعِقَادُهَا بِاعْتِبَارِ التَّطْلِيقَاتِ الْمَمْلُوكَةِ، وَهِيَ مَحْصُورَةٌ بِالثَّلَاثِ، وَقَدْ أَوْقَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ وَالْكُلُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لَا يُتَصَوَّرُ تَعَدُّدُهُ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ الْجَزَاءِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ طَلَاقًا كَانَ، أَوْ غَيْرَهُ.
وَكَمَا لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِدُونِ الْجَزَاءِ، لَا يَبْقَى بِدُونِ الْجَزَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثًا فَوَقَعَ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ تِسْعًا كُلَّ سَنَةٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ، لَمْ يَقَعْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ شَيْءٌ.
وَلَكِنَّ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُخَالِفُ فِي جَمِيعِ هَذَا وَيَقُولُ: مَا يَمْلِكُ عَلَى امْرَأَتِهِ مِنْ التَّطْلِيقَاتِ غَيْرُ مَحْصُورٍ بِعَدَدٍ، وَإِنَّمَا لَا يَقَعُ إلَّا الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَسَعُ إلَّا ذَلِكَ حَتَّى أَنَّ بِاعْتِبَارِ تَجَدُّدِ الْعَقْدِ، يَقَعُ عَلَيْهَا أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَلْفًا، يَقَعُ عَلَيْهَا ثَلَاثٌ، وَلَوْ كَانَ الْمَمْلُوكُ هُوَ الثَّلَاثَ، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ وَاحِدَةً فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ.
وَالْمُعْتَمَدُ أَنْ نَقُولَ بِوُقُوعِ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مَشْرُوعٌ؛ لِرَفْعِ الْحِلِّ، وَقَدْ ارْتَفَعَ الْحِلُّ بِالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ، وَفَوْتُ مَحَلُّ الْجَزَاءِ يُبْطِلُ الْيَمِينَ كَفَوْتِ مَحَلِّ الشَّرْطِ بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ ثُمَّ جَعَلَ الدَّارَ حَمَّامًا، أَوْ بُسْتَانًا لَا يَبْقَى الْيَمِينُ فَلِهَذَا مَثَّلَهُ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ بَيْعِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ بِصِفَةِ الرِّقِّ كَانَ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ.
وَبِالْبَيْعِ لَمْ تَفُتْ تِلْكَ الصِّفَةُ حَتَّى لَوْ فَاتَ الْعِتْقُ، لَمْ يَبْقَ الْيَمِينُ وَبِخِلَافِ مَا لَوْ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ بَاقٍ بَعْدَ اثْنَتَيْنِ فَإِنَّ الْمَحَلِّيَّةَ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْحِلِّ وَهِيَ قَائِمَةٌ بَعْدَ الثِّنْتَيْنِ، فَيَبْقَى الْيَمِينُ.
ثُمَّ قَدْ اسْتَفَادَ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَيَسْرِي إلَيْهِ حُكْمُ الْيَمِينِ كَمَا لَوْ هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ إلَّا دِرْهَمًا مِنْهُ، يَبْقَى عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ عَلَى الْكُلِّ حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ وَرَبِحَ يَحْصُلُ جَمِيعُ رَأْسِ الْمَالِ بِخِلَافِ مَا لَوْ هَلَكَ الْكُلُّ.
وَهَذَا بِخِلَافِ الْيَمِينِ فِي الظِّهَارِ فَإِنَّ الْمَحَلِّيَّةَ هُنَاكَ لَا تَنْعَدِمُ بِالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِالظِّهَارِ غَيْرُ الْحُرْمَةِ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّ تِلْكَ حُرْمَةٌ إلَى وُجُودِ التَّكْفِيرِ، وَهَذِهِ حُرْمَةٌ إلَى وُجُودِ مَا يَرْفَعُهَا، وَهُوَ الزَّوْجُ إلَّا أَنَّهَا لَوْ دَخَلَتْ الدَّارَ بَعْدَ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ إنَّمَا لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُ لَا حِلَّ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ، وَالظِّهَارُ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ إلَّا إذَا دَخَلَتْ الدَّارَ بَعْدَ التَّزَوُّجِ بِهَا.
وَمَا قَالَ أَنَّ الْمَحَلَّ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ إيجَابٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاصِلًا إلَى الْمَحَلِّ.
وَلَا يَكُونُ كَلَامُهُ إيجَابًا إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ، فَلَا بُدَّ لِبَقَائِهِ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ مِنْ بَقَاءِ الْمَحَلِّ، وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّمَا حِضْتِ فَبَانَتْ بِثَلَاثٍ ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا، إنْ حَاضَتْ شَيْءٌ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَذَلِكَ إنْ آلَى مِنْهَا فَبَانَتْ بِالْإِيلَاءِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَبَانَتْ أَيْضًا حَتَّى بَانَتْ بِثَلَاثٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا بِهَذَا الْإِيلَاءِ طَلَاقٌ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَكِنْ إنْ قَرِبَهَا، كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ فَإِنَّ انْعِقَادَهَا وَبَقَاءَهَا لَا يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْحِلِّ، فَإِذَا قَرُبَهَا، تَحَقَّقَ حِنْثُهُ فِي الْيَمِينِ، فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ.
(قَالَ): وَإِنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً، أَوْ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ قَدْ دَخَلَ بِهَا، فَهِيَ عِنْدَهُ عَلَى ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ مُسْتَقْبَلَاتٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَإِبْرَاهِيمَ، وَأَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى هِيَ عِنْدَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعِمْرَانِ بْنِ الْحُصَيْنِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَأَخَذَ الشُّبَّانُ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِقَوْلِ الْمَشَايِخِ مِنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَالْمَشَايِخُ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِقَوْلِ الشُّبَّانِ مِنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
وَحُجَّةُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ غَايَةٌ لِلْحُرْمَةِ الْحَاصِلَةِ بِالثَّلَاثِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وَكَلِمَةُ حَتَّى لِلْغَايَةِ حَقِيقَةً، وَبِالتَّطْلِيقَةِ وَالتَّطْلِيقَتَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِوُقُوعِ الثَّلَاثِ.
وَبِبَعْضِ أَرْكَانِ الْعِلَّةِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ، فَلَا يَكُونُ الزَّوْجُ الثَّانِي غَايَةً؛ لِأَنَّ غَايَةَ الْحُرْمَةِ قَبْلَ وُجُودِهَا لَا يَتَحَقَّقُ كَمَا لَوْ قَالَ: إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، فَوَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا حَتَّى أَسْتَشِيرَ فُلَانًا ثُمَّ اسْتَشَارَهُ قَبْلَ مَجِيءِ رَأْسِ الشَّهْرِ، لَا يُعْتَبَرُ هَذَا: لِأَنَّ الِاسْتِشَارَةَ غَايَةٌ لِلْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالْيَمِينِ فَلَا تُعْتَبَرُ قَبْلَ الْيَمِينِ، وَإِذَا لَمْ تُعْتَبَرْ، كَانَ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا.
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ التَّزَوُّجِ، أَوْ قَبْلَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي، كَانَتْ عِنْدَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ التَّطْلِيقَاتِ، فَكَذَلِكَ هُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: إصَابَةُ الزَّوْجِ الثَّانِي بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ يُلْحِقَ الْمُطَلَّقَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ فِي الْحُكْمِ الْمُخْتَصِّ بِالطَّلَاقِ كَمَا بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ، وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ بِالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ تَصِيرُ مُحَرَّمَةً وَمُطَلَّقَةً ثُمَّ بِإِصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي يَرْتَفِعُ الْوَصْفَانِ جَمِيعًا وَتَلْتَحِقُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَتَزَوَّجْهَا قَطُّ، فَبِالتَّطْلِيقَةِ الْوَاحِدَةِ تَصِيرُ مَوْصُوفَةً بِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ، فَيَرْتَفِعُ ذَلِكَ بِإِصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ رَافِعٌ لِلْحُرْمَةِ لَا مُنْهٍ أَنَّ الْمَنْهِيَّ يَكُونُ مُتَقَرِّرًا فِي نَفْسِهِ، وَلَا حُرْمَةَ بَعْدَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي فَدَلَّ أَنَّهُ رَافِعٌ لِلْحُرْمَةِ؛ وَلِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْحِلِّ، فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ سَمَّاهُ مُحَلِّلًا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَإِنَّمَا كَانَ مُحَلِّلًا؛ لِكَوْنِهِ مُوجِبًا لِلْحِلِّ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنَّهُ يَكُونُ رَافِعًا لِلْحُرْمَةِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ جَعْلَهُ غَايَةً مَجَازٌ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى {وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}، وَالِاغْتِسَالُ مُوجِبٌ لِلطَّهَارَةِ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ لَا أَنْ يَكُونَ غَايَةً لِلْجَنَابَةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ أَحْكَامَ الطَّلَاقِ تَثْبُتُ مُتَأَبِّدَةً لَا إلَى غَايَةٍ وَلَكِنْ تَرْتَفِعُ بِوُجُودِ مَا يَرْفَعُهَا كَحُكْمِ زَوَالِ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ مُؤَقَّتًا وَلَكِنْ يَرْتَفِعُ بِوُجُودِ مَا يَرْفَعُهُ، وَهُوَ النِّكَاحُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ مُوجِبٌ لِلْحِلِّ فَإِنَّمَا يُوجِبُ حَلَالًا يَرْتَفِعُ إلَّا بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ بَعْدَ التَّطْلِيقَةِ وَالتَّطْلِيقَتَيْنِ فَيَثْبُتُ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ رَافِعًا لِلْحُرْمَةِ إذَا اعْتَرَضَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ، فَلَأَنْ يَرْفَعَهَا وَهُوَ بِعَرْضِ الثُّبُوتِ أَوْلَى، وَلَأَنْ يَمْنَعَ ثُبُوتَهَا إذَا اقْتَرَنَ بِأَرْكَانِهَا أَوْلَى وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ، وَذَلِكَ لَا يَرْتَفِعُ بِالزَّوْجِ الثَّانِي؛ حَتَّى لَا تَعُودَ مَنْكُوحَةً لَهُ، وَبَقَاءُ الْحُكْمِ بِبَقَاءِ سَبَبِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِرَافِعٍ لِلْحُرْمَةِ وَلَا هُوَ مُوجِبٌ لِلْحِلِّ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ النِّكَاحِ الثَّانِي فِي حُرْمَتِهَا عَلَى غَيْرِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحِلِّ لِغَيْرِهِ وَسَمَّاهُ مُحَلِّلًا؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِلْحِلِّ لَا؛ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْحِلِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَمَّاهُ مَلْعُونًا بِاشْتِرَاطِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحِلِّ وَلَكِنَّ الْحُرْمَةَ تَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ كَحُرْمَةِ الْمُعْتَدَّةِ، وَحُرْمَةِ الِاصْطِيَادِ عَلَى الْمُحْرِمِ فَجَعَلْنَا الزَّوْجَ الثَّانِيَ غَايَةً لِلْحُرْمَةِ؛ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ كَلِمَةِ حَتَّى الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: حَتَّى تَذُوقِي مِنْ عُسَيْلَتِهِ» وَمَسْأَلَةٌ يَخْتَلِفُ فِيهَا كِبَارُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ؛ لِغَوْرِ فِقْهِهَا يَصْعُبُ الْخُرُوجُ مِنْهَا.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً، أَوْ اثْنَتَيْنِ، وَعَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ فَدَخَلَتْ الدَّارَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَطْلُقُ بِالدُّخُولِ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهَا عَادَتْ إلَيْهِ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقَعُ عَلَيْهَا مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا إنَّمَا عَادَتْ إلَيْهِ بِمَا بَقِيَ مِنْ الطَّلْقَاتِ.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: كُلَّمَا تَزَوَّجْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ يَقَعُ عَلَيْهَا ثَلَاثٌ كُلَّمَا تَزَوَّجَ بِهَا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تَقْتَضِي نُزُولَ الْجَزَاءِ بِتَكْرَارِ الشَّرْطِ.
وَانْعِقَادُ هَذِهِ الْيَمِينِ بِاعْتِبَارِ التَّطْلِيقَاتِ الَّتِي يَمْلِكُهَا عَلَيْهَا بِالتَّزَوُّجِ، وَتِلْكَ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ بِعَدَدٍ فَلِهَذَا بَقِيَتْ الْيَمِينُ بَعْدَ وُقُوعِ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ: كُلَّمَا دَخَلْت الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَإِنَّ انْعِقَادَ تِلْكَ الْيَمِينِ بِاعْتِبَارِ التَّطْلِيقَاتِ الْمَمْلُوكَةِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ فَلَا تَبْقَى بَعْدَ وُقُوعِ التَّطْلِيقَاتِ الْمَمْلُوكَةِ عَلَيْهَا.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ مَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ يَجُوزُ إضَافَتُهُ إلَى الْمِلْكِ عَمَّ أَوْ خَصَّ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ فِي الظِّهَارِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَصِحُّ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ يَقُولُ لِامْرَأَةٍ إنْ تَزَوَّجْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَتَلَا عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ}، وَقَالَ شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّلَاقَ بَعْدَ النِّكَاحِ فَلَا طَلَاقَ قَبْلَهُ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ خَصَّ امْرَأَةً وَقَبِيلَةً، انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ.
وَإِنْ عَمَّ فَقَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لَا تَنْعَقِدُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ سَدِّ بَابِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ عَلَى نَفْسِهِ فَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ» وَرُوِيَ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خَطَبَ امْرَأَةً، فَأَبَى أَوْلِيَاؤُهَا أَنْ يُزَوِّجُوهَا مِنْهُ، فَقَالَ إنْ نَكَحْتُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ: لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ»، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِتَنْجِيزِ الطَّلَاقِ فَلَا يَمْلِكُ تَعْلِيقَهُ بِالشَّرْطِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَدَخَلَتْ لَمْ تَطْلُقْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الشَّرْطِ فِي تَأْخِيرِ الْوُقُوعِ إلَى وُجُودِهِ، وَمُنِعَ مَا لَوْلَاهُ لَكَانَ طَلَاقًا، وَهَذَا الْكَلَامُ لَوْلَا الشَّرْطُ لَكَانَ لَغْوًا لَا طَلَاقًا؛ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ يَسْتَدْعِي أَهْلِيَّةً فِي الْمُوقِعِ وَمِلْكًا فِي الْمَحَلِّ ثُمَّ قَبْلَ الْأَهْلِيَّةِ لَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ مُضَافًا إلَى حَالَةِ الْأَهْلِيَّةِ كَالصَّبِيِّ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ: إذَا بَلَغْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَكَذَلِكَ قَبْلَ مِلْكِ الْمَحَلِّ لَا يَصِحُّ مُضَافًا.
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ فَإِيجَابُهُ قَبْلَ الْمِلْكِ يَكُونُ لَغْوًا كَمَا لَوْ بَاعَ الطَّيْرَ فِي الْهَوَاءِ ثُمَّ أَخَذَهُ قَبْلَ قَبُولِ الْمُشْتَرِي.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يَمِينٌ فَلَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى مِلْكِ الْمَحَلِّ كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَصَرُّفٌ مِنْ الْحَالِفِ فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ الْبِرَّ، وَالْمَحْلُوفُ بِهِ لَيْسَ بِطَلَاقٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ طَلَاقًا إلَّا بِالْوُصُولِ إلَى الْمَرْأَةِ، وَمَا دَامَتْ يَمِينًا لَا يَكُونُ وَاصِلًا إلَيْهَا، وَإِنَّمَا الْوُصُولُ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْيَمِينِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَحْلُوفَ بِهِ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَقِيَامَ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ لِأَجْلِ الطَّلَاقِ.
وَلَكِنَّ الْمَحْلُوفَ بِهِ مَا سَيَصِيرُ طَلَاقًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِوُصُولِهِ إلَيْهَا، وَنَظِيرُهُ مِنْ الْمَسَائِلِ الرَّمْيُ عَيْنُهُ لَيْسَ بِقَتْلٍ، وَالتُّرْسُ لَا يَكُونُ مَانِعًا عَمَّا هُوَ قَتْلٌ وَلَا مُؤَخِّرًا لَهُ، بَلْ يَكُونُ مَانِعًا عَمَّا سَيَصِيرُ قَتْلًا، إذَا وَصَلَ إلَى الْمَحَلِّ.
وَلَمَّا كَانَ التَّعْلِيقُ مَانِعًا مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْمَحَلِّ، وَالتَّصَرُّفُ لَا يَكُونُ إلَّا بِرُكْنِهِ وَمَحَلِّهِ فَكَمَا أَنَّهُ بِدُونِ رُكْنِهِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا، فَكَذَلِكَ بِدُونِ مَحَلِّهِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا، وَبِهِ فَارَقَ مَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّ الْمَحْلُوفَ بِهِ هُنَاكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَهُوَ مَا يَصِيرُ طَلَاقًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الدَّارِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الطَّلَاقِ، وَلَا هُوَ مَالِكٌ لِطَلَاقِهَا فِي الْحَالِ حَتَّى يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى بَقَاءِ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ.
أَمَّا هُنَا نَتَيَقَّنُ بِوُجُودِ الْمَحْلُوفِ بِهِ مَوْجُودًا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ بِأَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ دُخُولُهَا بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ، فَإِذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ بِهِ مُتَيَقَّنَ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، أَوْلَى أَنْ يَنْعَقِدَ الْيَمِينُ، وَبِأَنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ التَّنْجِيزَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّعْلِيقَ كَمَنْ يَقُولُ لِجَارِيَتِهِ: إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ، صَحَّ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ تَنْجِيزَ الْعِتْقِ فِي الْوَلَدِ الْمَعْدُومِ.
وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ الْحَائِضِ: إذَا طَهُرْتِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، كَانَ هَذَا طَلَاقًا لِلسُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ تَنْجِيزَهُ فِي الْحَالِ وَهَذَا بِخِلَافِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي تَصَرُّفِ الْيَمِينِ كَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي تَصَرُّفِ الطَّلَاقِ فَأَمَّا فِي الْمَحَلِّ مُعْتَبَرٌ بِالطَّلَاقِ دُونَ الْيَمِينِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْإِيجَابَ أَحَدُ شَطْرَيْ الْبَيْعِ، وَتَصَرُّفُ الْبَيْعِ قَبْلَ الْمِلْكِ لَغْوٌ.
فَأَمَّا الْإِيجَابُ هُنَا تَصَرُّفٌ آخَرُ سِوَى الطَّلَاقِ وَهِيَ الْيَمِينُ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ مَا رُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ وَالزُّهْرِيِّ وَسَالِمٍ وَالشَّعْبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: «كَانُوا يُطَلِّقُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ التَّزَوُّجِ؛ تَنْجِيزًا، وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ طَلَاقًا فَنَفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ».
وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ، وَإِنْ ثَبَتَ فَمَعْنَى قَوْلِهِ إنْ نَكَحْتُهَا أَيْ وَطِئْتُهَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةً لِلْوَطْءِ، وَبِهَذَا لَا يَحْصُلُ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى الْمِلْكِ عِنْدَنَا.
إذَا عَرَفْنَا هَذَا، فَنَقُولُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا تَزَوَّجْتُك أَوْ إذَا مَا تَزَوَّجْتُك أَوْ إنْ تَزَوَّجْتُك أَوْ مَتَى مَا تَزَوَّجْتُك فَهَذَا كُلُّهُ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ فَإِنَّ كَلِمَةَ إنْ لِلشَّرْطِ، وَإِذَا، وَمَتَى لِلْوَقْتِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: كُلَّمَا تَزَوَّجْتُك؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَلَا يَرْتَفِعُ الْيَمِينُ بِالتَّزَوُّجِ مَرَّةً وَلَكِنْ كُلَّمَا تَزَوَّجَهَا، يَصِيرُ عِنْدَ التَّزْوِيجِ كَالْمُنْجِزِ لِلطَّلَاقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: كُلَّمَا دَخَلْت الدَّارَ فَهَذَا عَلَى كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى تَطْلُقَ ثَلَاثًا بِخِلَافِ إنْ وَإِذَا وَمَتَى فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ لَا يَمْلِكُهَا: أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ أُكَلِّمُكِ، أَوْ يَوْمَ تَدْخُلِينَ الدَّارَ، أَوْ يَوْمَ أَطَؤُكِ فَهَذَا بَاطِلٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: يَوْمَ أَتَزَوَّجُكِ فَإِنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ يَصِيرُ مُضِيفًا الطَّلَاقَ إلَى التَّزَوُّجِ، وَهُوَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الطَّلَاقِ فَيَصِيرُ الْمَحْلُوفُ بِهِ مَوْجُودًا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّ دُخُولَ الدَّارِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الطَّلَاقِ.
فَإِنْ تَزَوَّجَ بِهَا ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَقَعُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَقْتُ وُجُودِ الشَّرْطِ فَإِنْ طَلَّقَهَا حِينَئِذٍ، يَصِلُ إلَى الْمَحَلِّ، وَالْمِلْكُ مَوْجُودٌ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا بَعْدَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَلَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِدُونِ الْمَحْلُوفِ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مَالِكًا لِلطَّلَاقِ فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ، لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ فَبِدُونِ ذَلِكَ، وَإِنْ صَارَ مَالِكًا لِلطَّلَاقِ فِي الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ، لَا يَقَعُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَا كَانَتْ مُنْعَقِدَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ إذَا جَاءَ غَدٌ.
وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، وَقَالَ: عَنَيْت الْأُولَى، صَدَقَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا فِي الْقَضَاءِ فَهُمَا تَطْلِيقَتَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَلَامَيْنِ إيقَاعٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، فَإِنَّ صِيغَةَ الْكَلَامِ الثَّانِي كَصِيغَةِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ، وَمَا قَالَهُ مِنْ قَصْدِ تَكْرَارِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ مُحْتَمَلٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْوَاحِدَ يُكَرَّرُ لِلتَّأْكِيدِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمِيرِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ طَلَّقْتُك قَدْ طَلَّقْتُك، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ قَدْ طَلَّقْتُك، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ طَالِقٌ،
وَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَمَّا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَ لَهُ إنْسَانٌ: مَاذَا قُلْتَ فَقَالَ: قَدْ طَلَّقْتُهَا، أَوْ قَالَ: قُلْتُ هِيَ طَالِقٌ فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ الثَّانِيَ جَوَابٌ لِسُؤَالِ السَّائِلِ، وَالسَّائِلُ إنَّمَا يَسْأَلُهُ عَنْ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ لَا عَنْ إيقَاعٍ آخَرَ فَيَكُونُ جَوَابُهُ بَيَانًا لِذَلِكَ الْكَلَامِ.
(قَالَ): وَإِذَا قَالَ لَهَا: إذَا طَلَّقْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَقَدْ دَخَلَ بِهَا؛ فَهِيَ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ فِي الْقَضَاءِ إحْدَاهُمَا بِالْإِيقَاعِ وَالْأُخْرَى بِوُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إذَا طَلَّقْتُك شَرْطٌ، وَقَوْلَهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ جَزَاءٌ لَهُ، وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَ نَوَى بِقَوْلِهِ إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ تِلْكَ التَّطْلِيقَةَ، فَهِيَ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ مَا نَوَاهُ مُحْتَمَلٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ بَيَانًا لِحُكْمِ الْإِيقَاعِ لَا جَزَاءً لِشَرْطِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمِيرِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: مَتَى مَا طَلَّقْتُك، أَوْ إنْ طَلَّقْتُك، فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً، تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ بِوُقُوعِ الْوَاحِدَةِ، يُوجَدُ الشَّرْطُ فَوَقَعَ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةُ الْيَمِينِ ثُمَّ بِوُقُوعِ هَذِهِ التَّطْلِيقَةِ، وُجِدَ الشَّرْطُ مَرَّةً أُخْرَى، وَالْيَمِينُ مَعْقُودَةٌ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا فَتَقَعُ عَلَيْهَا الثَّالِثَةُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: كُلَّمَا طَلَّقْتُك، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً تَقَعُ عَلَيْهَا أُخْرَى فَقَطْ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الثَّانِيَةِ عَلَيْهَا لَيْسَ بِإِيقَاعٍ مُسْتَقْبَلٍ مِنْهُ بَعْدَ يَمِينِهِ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا لِلْحِنْثِ؛ فَلِهَذَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا إلَّا وَاحِدَةٌ، فَأَمَّا فِي الْأَوَّلِ الشَّرْطُ الْوُقُوعُ لَا الْإِيقَاعُ، وَالْوُقُوعُ يَحْصُلُ بِالثَّانِيَةِ بَعْدَ الْيَمِينِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: كُلَّمَا قُلْت أَنْتِ طَالِقٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ كُلَّمَا تَكَلَّمْت بِطَلَاقٍ يَقَعُ عَلَيْك، فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَهِيَ طَالِقٌ أُخْرَى بِالْيَمِينِ، وَلَا يَقَعُ بِالثَّانِيَةِ طَلَاقٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا جَعَلَهُ شَرْطًا لَا يَصِيرُ مَوْجُودًا بَعْدَ الْيَمِينِ بِمَا وَقَعَ بِالْيَمِينِ، وَالْأَصْلُ فِيمَا نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالْجَزَاءِ حَتَّى لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ كَانَ- يَمِينًا بِالطَّلَاقِ وَلَوْ قَالَ: فَعَبْدِي حُرٌّ كَانَ يَمِينًا بِالْعِتْقِ.
وَالشَّرْطُ وَاحِدٌ وَهُوَ دُخُولُ الدَّارِ ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الْيَمِينُ بِاخْتِلَافِ الْجَزَاءِ وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّ الشَّرْطَ يُعْتَبَرُ وُجُودُهُ بَعْدَ الْيَمِينِ، وَأَمَّا مَا سَبَقَ الْيَمِينَ لَا يَكُونُ شَرْطًا؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِالْيَمِينِ مَنْعَ نَفْسِهِ عَنْ إيجَادِ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ عَنْ شَيْءٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِيمَا مَضَى فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَاضِيَ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا لَهُ، وَالْيَمِينُ يَتَقَيَّدُ بِمَقْصُودِ الْحَالِفِ.
إذَا عَرَفْنَا هَذَا، فَنَقُولُ: رَجُلٌ لَهُ امْرَأَتَانِ عَمْرَةُ وَزَيْنَبُ فَقَالَ لِزَيْنَبِ: أَنْتِ طَالِقٌ، إذَا طَلَّقْت عَمْرَةَ، أَوْ كُلَّمَا طَلَّقْت عَمْرَةَ ثُمَّ قَالَ لِعَمْرَةَ: أَنْتِ طَالِقٌ، إذَا طَلَّقْت زَيْنَبَ ثُمَّ قَالَ لِزَيْنَبِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى زَيْنَبَ بِالْإِيقَاعِ تَطْلِيقَةٌ، وَيَقَعُ عَلَى عَمْرَةَ أَيْضًا تَطْلِيقَةٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ الْأَوَّلَ كَانَ يَمِينًا بِطَلَاقِ زَيْنَبَ، وَكَلَامَهُ الثَّانِيَ كَانَ يَمِينًا بِطَلَاقِ عَمْرَةَ فَإِنَّ الْجَزَاءَ فِيهِ طَلَاقُ عَمْرَةَ، وَالشَّرْطُ طَلَاقُ زَيْنَبَ وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ بِإِيقَاعِهِ عَلَى زَيْنَبَ فَلِهَذَا يَقَعُ عَلَى عَمْرَةَ تَطْلِيقَةٌ بِالْيَمِينِ وَيَعُودُ إلَى زَيْنَبَ؛ لِأَنَّ عَمْرَةَ طَلُقَتْ بِيَمِينٍ بَعْدَ يَمِينِهِ بِطَلَاقِ زَيْنَبَ فَيَكُونُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا شَرْطًا لِلْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ بِطَلَاقِ زَيْنَبَ فَلِهَذَا يَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى؛ هَكَذَا فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَفِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: وَلَا يَعُودُ عَلَى زَيْنَبَ وَهُوَ غَلَطٌ ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ لَمْ يُطَلِّقْ زَيْنَبَ وَلَكِنَّهُ طَلَّقَ عَمْرَةَ وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ بِالْإِيقَاعِ، وَعَلَى زَيْنَبَ تَطْلِيقَةٌ بِالْيَمِينِ ثُمَّ وَقَعَتْ أُخْرَى عَلَى عَمْرَةَ بِالْيَمِينِ؛ هَكَذَا ذُكِرَ فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَهُوَ غَلَطٌ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَى عَمْرَةَ بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّ زَيْنَبَ إنَّمَا طَلُقَتْ بِالْيَمِينِ السَّابِقَةِ عَلَى الْيَمِينِ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ شَرْطًا لِلْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ.
قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَيْنَبِ: إذَا طَلَّقْتُ عَمْرَةَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ لِعَمْرَةَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ عَمْرَةُ الدَّارَ؛ تَطْلُقُ بِالدُّخُولِ، وَتَطْلُقُ زَيْنَبُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ عَمْرَةَ إنَّمَا طَلُقَتْ بِكَلَامٍ بَعْدَ الْيَمِينِ بِطَلَاقِ زَيْنَبَ، وَلَوْ كَانَ قَالَ لِعَمْرَةَ أَوَّلًا: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ لِزَيْنَبِ: إنْ طَلَّقْتُ عَمْرَةَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ دَخَلَتْ عَمْرَةُ الدَّارَ؛ طَلُقَتْ، وَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ عَلَى زَيْنَبَ؛ لِأَنَّ عَمْرَةَ إنَّمَا طَلُقَتْ بِيَمِينِ قَبْلَ الْيَمِينِ بِطَلَاقِ زَيْنَبَ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَرْطًا لِلْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ بِطَلَاقِ زَيْنَبَ.
وَبِهَذَا الِاسْتِشْهَادِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الصَّوَابَ مَا ذَكَرَهُ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَنَّ جَوَابَهُ فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ وَقَعَ عَلَى الْقَلْبِ.
(قَالَ): وَإِذَا حَلَفَ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ، لَا يَحْلِفُ بِطَلَاقِ زَيْنَبَ ثُمَّ حَلَفَ بِطَلَاقِ زَيْنَبَ، لَا يَحْلِفُ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ، كَانَتْ عَمْرَةُ طَالِقًا؛ لِأَنَّهُ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ حَلَفَ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ، وَشَرْطُ حِنْثِهِ الْحَلِفُ بِطَلَاقِ زَيْنَبَ وَبِالْكَلَامِ الثَّانِي صَارَ حَالِفًا بِطَلَاقِ زَيْنَبَ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ فِيهِ طَلَاقُ زَيْنَبَ فَوُجِدَ فِيهِ شَرْطُ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَيْنَبِ بَعْدَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، كَانَتْ عَمْرَةُ طَالِقًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَلَفَ بِطَلَاقِ زَيْنَبَ فَإِنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ يَمِينٌ عِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ وَقَدْ وُجِدَ فَصَارَ بِهِ حَانِثًا فِي الْيَمِينِ الْأُولَى.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ لِزَيْنَبِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ لَمْ تَطْلُقْ عَمْرَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِيَمِينٍ بَلْ هُوَ تَفْوِيضُ الْمَشِيئَةِ إلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: اخْتَارِي، أَوْ أَمْرُكِ بِيَدِك وَذَلِكَ لَا يَكُونُ حَلِفًا بِالطَّلَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خَيَّرَ نِسَاءَهُ مَعَ نَهْيِهِ عَنْ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ».
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّخْيِيرِ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْمَشِيئَةِ، وَالشَّرْطُ الْمُطْلَقُ لَا يَتَوَقَّتُ بِالْمَجْلِسِ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الشَّرْطَ مَنْفِيٌّ فَإِنَّ الْحَالِفَ يَقْصِدُ مَنْعَ الشَّرْطِ بِيَمِينِهِ وَفِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ لَا يَقْصِدُ مَنْعَهَا عَنْ الْمَشِيئَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِزَيْنَبِ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا حِضْت حَيْضَةً فَلِهَذَا لَيْسَ بِيَمِينٍ عِنْدَنَا وَلَا يَحْنَثُ بِهِ فِي الْيَمِينِ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ؛ لِأَنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ لِطَلَاقِ السُّنَّةِ فَإِنَّ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا مَا لَمْ تَطْهُرْ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ اسْمٌ لِلْحَيْضَةِ الْكَامِلَةِ، وَطَلَاقُ السُّنَّةِ يَتَأَخَّرُ إلَى حَالَةِ الطُّهْرِ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ.
وَعَنْ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا يَمِينٌ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ لِطَلَاقِ السُّنَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَامَعَهَا فِي هَذِهِ الْحَيْضَةِ ثُمَّ طَهُرَتْ طَلُقَتْ وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ ثُمَّ جَامَعَهَا فِي الْحَيْضِ فَطَهُرَتْ لَمْ تَطْلُقْ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا: إذَا حِضْتِ حَيْضَتَيْنِ، أَوْ إذَا حِضْت ثَلَاثَ حِيَضٍ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَلِفًا بِطَلَاقِهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا: إذَا حِضْتِ فَهَذَا حَلَفَ بِطَلَاقِهَا حَتَّى تَطْلُقَ عَمْرَةُ؛ لِأَنَّ بِهَذَا اللَّفْظِ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ قَبْلَ الطُّهْرِ فَلَا يَكُونُ تَفْسِيرًا لِطَلَاقِ السُّنَّةِ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا تَفْسِيرٌ لِطَلَاقِ الْبِدْعَةِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ، لَمْ يَكُنْ حَالِفًا بِطَلَاقِهَا.
(قُلْنَا): لَيْسَ كَذَلِكَ، فَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ لَا يَخْتَصُّ بِالْحَيْضِ، وَهَذَا الطَّلَاقُ لَا يَقَعُ إلَّا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ.
(قَالَ): وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ، فَكُلَّمَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ طَلُقَتْ وَاحِدَةً حَتَّى تَسْتَكْمِلَ الثَّلَاثَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِلسُّنَّةِ أَيْ لِوَقْتِ السُّنَّةِ، فَإِنَّ اللَّامَ لِلْوَقْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}.
وَكُلُّ طُهْرٍ مَحَلٌّ لِوُقُوعِ تَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ لِلسُّنَّةِ فَلِهَذَا طَلُقَتْ فِي كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةً، وَلَا يَحْتَسِبُ الْحَيْضَةَ الْأُولَى مِنْ عِدَّتِهَا؛ لِأَنَّهَا سَبَقَتْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَإِنْ نَوَى أَنْ تَطْلُقَ ثَلَاثًا فِي الْحَالِ، فَهُوَ كَمَا نَوَى عِنْدنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً خِلَافُ السُّنَّةِ، وَوُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ خِلَافُ السُّنَّةِ.
وَالنِّيَّةُ إنَّمَا تَعْمَلُ إذَا كَانَتْ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ اللَّفْظِ لَا فِيمَا كَانَ مِنْ ضِدِّهِ؛ وَلِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ إذَا حِضْتِ وَطَهُرْت فَكَأَنَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ وَنَوَى الْوُقُوعَ فِي الْحَالِ فَلَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمَنْوِيُّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ وُقُوعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ كَذَلِكَ، إذْ كَوْنُ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا عُرِفَ بِالسُّنَّةِ، فَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُطَلِّقُونَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ وَفِيهِ تَغْلِيظٌ عَلَيْهِ فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ، وَلَمْ يُسَمِّ ثَلَاثًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضَةِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّامَ لِلْوَقْتِ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا، فَهِيَ ثَلَاثٌ، كُلَّمَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضَةٍ، طَلُقَتْ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ أَوْقَاتَ السُّنَّةِ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ، فَهُوَ إنَّمَا نَوَى التَّعْمِيمَ فِي أَوْقَاتِ السُّنَّةِ؛ حَتَّى يَقَعَ فِي كُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ نِيَّةَ التَّعْمِيمِ صَحِيحَةٌ فِي كَلَامِهِ، فَلِهَذَا طَلُقَتْ فِي كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ، طَلُقَتْ سَاعَةَ تَكَلَّمَ بِهِ وَاحِدَةً، وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى، وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ لِلسُّنَّةِ هَكَذَا تَقَعُ عَلَيْهَا، وَالشَّهْرُ فِي حَقِّهَا كَالْحَيْضِ فِي حَقِّ ذَاتِ الْقُرُوءِ، وَإِنْ نَوَى أَنْ يَقَعْنَ جَمِيعًا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَهُوَ كَمَا نَوَى؛ لِمَا بَيَّنَّا.
(قَالَ): رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّمَا حِضْت حَيْضَتَيْنِ، فَهُوَ كَمَا قَالَ إذَا حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ، طَلُقَتْ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ ثُمَّ، إذَا حَاضَتْ أُخْرَاوَيْنِ، طَلُقَتْ أُخْرَى لِوُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَعْقُودَةٌ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا، وَيَحْتَسِبُ بِهَاتَيْنِ الْحَيْضَتَيْنِ مِنْ عِدَّتِهَا، فَإِذَا حَاضَتْ أُخْرَى، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا.
(قَالَ): وَإِنْ قَالَ لَهَا: إذَا حِضْت حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ وَقَالَ لَهَا أَيْضًا: كُلَّمَا حِضْت، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَرَأَتْ الدَّمَ، فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِيهَا وُجُودُ الْحَيْضِ لَا الْخُرُوجُ مِنْهُ، فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ فَهِيَ طَالِقٌ أُخْرَى بِالْيَمِينِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِيهَا الْحَيْضَةُ الْكَامِلَةُ، وَقَدْ وُجِدَتْ بَعْدَهَا، وَلَا يَحْتَسِبُ بِهَذِهِ الْحَيْضَةِ مِنْ عِدَّتِهَا؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ جُزْءٍ مِنْهَا، وَإِذَا حَاضَتْ الثَّانِيَةَ فَهِيَ طَالِقٌ أُخْرَى بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا عُقِدَتْ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا، وَكَلِمَةُ كُلَّمَا تُوجِبُ تَكْرَارَ الشَّرْطِ، وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فِيهَا مَرَّةً أُخْرَى.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ لَهَا إذَا حِضْت حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَالَ أَيْضًا: إذَا حِضْت حَيْضَتَيْنِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَحَاضَتْ حَيْضَةً وَطَهُرَتْ، فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً بِالْيَمِينِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ فِيهَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَدْ وُجِدَتْ، فَإِذَا حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى، طَلُقَتْ أُخْرَى لِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ مُضِيُّ الْحَيْضَتَيْنِ بَعْدَهَا فَإِنَّ الْحَيْضَةَ الْأُولَى كَمَالُ الشَّرْطِ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى وَنِصْفُ الشَّرْطِ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ.
، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ يَصْلُحُ شَرْطًا لِلْحِنْثِ فِي أَيْمَانٍ كَثِيرَةٍ وَيُحْتَسَبُ بِالْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ عِدَّتِهَا؛ لِأَنَّهَا حَاضَتْهَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهَا: إذَا حِضْت حَيْضَةً، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ إذَا حِضْت حَيْضَتَيْنِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِذَا حَاضَتْ حَيْضَةً وَاحِدَةً، طَلُقَتْ وَاحِدَةً ثُمَّ لَا تَطْلُقُ أُخْرَى مَا لَمْ تَحِضْ حَيْضَتَيْنِ سِوَاهَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الشَّرْطَ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ حَيْضَتَيْنِ سِوَى الْحَيْضَةِ الْأُولَى فَإِنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ لِلتَّعْقِيبِ مَعَ التَّرَاخِي، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: إذَا دَخَلْت الدَّارَ دَخْلَةً، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ إذَا دَخَلْتِهَا دَخْلَتَيْنِ فَأَنْتِ طَالِقٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: إذَا دَخَلْت، فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِذَا دَخَلْت، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ دَخْلَةً وَاحِدَةً، وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَانِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الْيَمِينِ الدُّخُولُ مُطْلَقًا وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ بِدَخْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي الْأَوَّلِ الشَّرْطُ دَخْلَتَانِ بَعْدَ الدَّخْلَةِ الْأُولَى فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ.
وَلَوْ قَالَ: إذَا حِضْت حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِذَا حِضْت حَيْضَتَيْنِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَحَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ، تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ إحْدَاهُمَا حِينَ حَاضَتْ الْأُولَى لِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةُ حِينَ حَاضَتْ الْأُخْرَى؛ لِتَمَامِ الشَّرْطِ بِهَا فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا حِضْت حَيْضَةً، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَحَاضَتْ أَرْبَعَ حِيَضٍ طَلُقَتْ ثَلَاثًا كُلَّ حَيْضَةٍ وَاحِدَةً؛ لِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا وَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِالْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ الْأُولَى لَا تَكُونُ مَحْسُوبَةً مِنْ عِدَّتِهَا فَإِنَّهَا سَبَقَتْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا.
(قَالَ): وَإِذَا قَالَ لَهَا: إذَا حِضْت حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَيْهَا بَعْدَ مَا يَنْقَطِعُ عَنْهَا الدَّمُ، وَتَغْتَسِلُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَضَى حَيْضَةً كَامِلَةً وَلَا يَتَيَقَّنُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الْحُكْمِ بِطُهْرِهَا، فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشَرَةً فَبِنَفْسِ الِانْقِطَاعِ يَتَيَقَّنُ بِطُهْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ، فَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِطُهْرِهَا إذَا اغْتَسَلَتْ أَوْ ذَهَبَ وَقْتُ صَلَاةٍ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ؛ فَلِهَذَا تَوَقَّفَ الْوُقُوعُ عَلَيْهِ.
وَلَوْ قَالَ: إذَا حِضْت حَيْضَةً، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ: قَدْ حِضْت حَيْضَةً لَمْ تُصَدَّقْ فِي الْقِيَاسِ إذَا كَذَّبَهَا الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي وُجُودَ شَرْطِ الطَّلَاقِ، وَمُجَرَّدُ قَوْلِهَا فِي ذَلِكَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الزَّوْجِ كَمَا لَوْ كَانَ الشَّرْطُ دُخُولَهَا الدَّارِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ دَعْوَاهَا شَرْطَ الطَّلَاقِ كَدَعْوَاهَا نَفْسَ الطَّلَاقِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ حَيْضَهَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهَا فِيهِ؛ كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ كُنْتِ تُحِبِّينَنِي أَوْ تُبْغِضِينَنِي، وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهَا فِي ذَلِكَ مَادَامَ فِي الْمَجْلِسِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا: إنْ شِئْت إلَّا أَنَّ هُنَاكَ تَقْدِرُ عَلَى الِاخْتِيَارِ فِي الْمَجْلِسِ فَبِالتَّأْخِيرِ عَنْهُ تَصِيرُ مُفَرِّطَةً، وَهُنَا لَا تَقْدِرُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْحَيْضِ مَا لَمْ تَرَ الدَّمَ، فَوَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهَا مَتَى أَخْبَرَتْ بِهِ.
(قَالَ): وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الِاسْتِحْسَانِ بَعْضُ الْقِيَاسِ مَعْنَاهُ أَنَّ الزَّوْجَ لَمَّا عَلَّقَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْحَيْضِ، صَارَ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْحَيْضِ بِجَعْلِهِ.
وَقَوْلُهَا حُجَّةٌ تَامَّةٌ فِي أَحْكَامِ الْحَيْضِ كَحُرْمَةِ وَطْئِهَا إذَا أَخْبَرَتْ بِرُؤْيَةِ الدَّمِ، وَحِلِّ الْوَطْءِ إذَا أَخْبَرَتْ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ وَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالْحَيْضِ يُقْبَلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ سَلَّطَهَا عَلَى الْإِخْبَارِ فَكَذَلِكَ الزَّوْجُ بِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِهِ يَصِيرُ مُسَلَّطًا لَهَا عَلَى الْإِخْبَارِ، وَإِذَا قَالَ: إذَا حِضْتِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ مَعَك فَقَالَتْ: حِضْتُ فَقِيَاسُ الِاسْتِحْسَانِ الْأَوَّلِ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى فُلَانَةَ كَمَا يَقَعُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا حُجَّةٌ تَامَّةٌ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهَا فَيَكُونُ ثُبُوتُ هَذَا الشَّرْطِ بِقَوْلِهَا كَثُبُوتِ شَرْطٍ آخَرَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ، وَلَكِنَّا نَدَعُ الْقِيَاسَ فِيهِ، وَنَقُولُ: لَا يَقَعُ عَلَى الْأُخْرَى شَيْءٌ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا قَدْ حَاضَتْ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حَقَّ الضَّرَّةِ وَهِيَ مَا سَلَّطَتْهَا وَلَا رَضِيَتْ بِخَبَرِهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا ثُمَّ قَبُولُ قَوْلِهَا فِيمَا مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهَا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهَا خَاصَّةً كَمَا فِي حِلِّ الْوَطْءِ، وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ.
وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُسْتَحِقِّ إذَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَإِنَّ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ وَرَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ فَلِهَذَا مِثْلُهُ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: إذَا وَلَدْت غُلَامًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَإِذَا وَلَدْت جَارِيَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا طَلُقَتْ اثْنَتَيْنِ بِوِلَادَتِهَا الْجَارِيَةَ ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَةِ الْغُلَامِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا طَلُقَتْ وَاحِدَةً بِوِلَادَتِهَا الْغُلَامَ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَةِ الْجَارِيَةِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَيُّهُمَا أَوَّلًا، لَمْ يَقَعْ فِي الْقَضَاءِ إلَّا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ التَّيَقُّنَ فِيهَا، وَفِي الثَّانِيَةِ شَكٌّ، وَالطَّلَاقُ بِالشَّكِّ لَا يَقَعُ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ بِتَطْلِيقَتَيْنِ حَتَّى إذَا كَانَ طَلَّقَهَا قَبْلَ هَذَا وَاحِدَةً فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ ثَلَاثًا، وَلَأَنْ يَتْرُكَ امْرَأَةً يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَطَأَ امْرَأَةً مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَتَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا وَلَدَتْ الْجَارِيَتَيْنِ أَوَّلًا، فَهِيَ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ بِوِلَادَةِ الْأُولَى مِنْهُمَا، وَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَةِ الْغُلَامِ، وَإِنْ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا، طَلُقَتْ وَاحِدَةً بِوِلَادَةِ الْغُلَامِ، وَتَطْلِيقَتَيْنِ بِوِلَادَةِ الْجَارِيَةِ الْأُولَى وَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَةِ الْأُخْرَى، وَإِنْ وَلَدَتْ إحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ الْغُلَامَ ثُمَّ الْجَارِيَةَ، طَلُقَتْ تَطْلِيقَتَيْنِ بِوِلَادَةِ الْجَارِيَةِ الْأُولَى، وَالثَّالِثَةَ بِوِلَادَةِ الْغُلَامِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَةِ الْأُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كَيْفَ كَانَتْ الْوِلَادَةُ فَنَقُولُ فِي وَجْهٍ: هِيَ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ وَفِي وَجْهَيْنِ: هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَفِي الْقَضَاءِ لَا تَطْلُقُ الِاثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ فِيهَا، وَفِي التَّنَزُّهِ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ احْتِيَاطًا وَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِيَقِينٍ بِوِلَادَةِ الْآخَرِ مِنْهُمْ.
وَإِذَا قَالَ لَهَا: كُلَّمَا وَلَدْت وَلَدًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ وَقَالَ: إذَا وَلَدْت غُلَامًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ جَارِيَةً، فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ وَلَدٌ فَيَقَعُ بِهَا تَطْلِيقَةٌ بِحُكْمِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَهَا غُلَامًا فِي ذَلِكَ الْبَطْنِ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَةِ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ وَضَعَتْ جَمِيعَ مَا فِي بَطْنِهَا.
وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا بِوِلَادَةِ الْغُلَامِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ أَوَانَ الْوُقُوعِ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهِيَ لَيْسَتْ فِي عِدَّتِهِ بَعْدَ وِلَادَةِ الْغُلَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا: إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا، وَقَعَ بِهِ تَطْلِيقَتَانِ أَحَدُهُمَا بِالْغُلَامِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ وَلَدٌ، وَالثَّانِيَةُ بِالْكَلَامِ الثَّانِي؛
لِأَنَّهُ غُلَامٌ، وَكَذَلِكَ وَلَوْ قَالَ لَهَا: إذَا وَلَدْت غُلَامًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ: إذَا وَلَدْت وَلَدًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا طَلُقَتْ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ وَلَدٌ وَغُلَامٌ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إذَا كَلَّمْت فُلَانًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ: إذَا كَلَّمْت إنْسَانًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَكَلَّمَتْ فُلَانًا تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إنْسَانٌ وَفُلَانٌ.
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ، فَهِيَ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا، فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ فُلَانَةَ، تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهَا فُلَانَةُ وَامْرَأَةٌ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ يَصْلُحُ شَرْطًا لِلْحِنْثِ فِي أَيْمَانٍ كَثِيرَةٍ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كُلَّمَا وَلَدْت غُلَامًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا، وَقَعَ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ بِوِلَادَةِ الْغُلَامِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَةِ الْجَارِيَةِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا، وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ بِوِلَادَةِ الْغُلَامِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ، وَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ، إذَا عَلِمَ أَنَّ الْغُلَامَ وُلِدَ آخِرًا، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَيُّهُمَا أَوَّلٌ، فَعَلَيْهِمَا الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي كُلِّ حُكْمٍ فَيَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا، وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَتَوَارَثَا؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا ثُمَّ انْتَقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَةِ الْجَارِيَةِ، وَالْمِيرَاثُ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ.
(قَالَ): وَإِنْ قَالَ: إذَا وَلَدْت وَلَدًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَسْقَطَتْ سِقْطًا مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ أَوْ بَعْضَ الْخَلْقِ طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا السِّقْطِ وَلَدٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِهِ، وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَوْ لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ، لَمْ يَقَعْ بِهِ طَلَاقٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَلَدٍ فِي حُكْمِ الْعِدَّةِ وَثُبُوتِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ لَهَا: إذَا وَلَدْتِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ: قَدْ وَلَدْتُ، وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ، لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ بِقَوْلِهَا بِخِلَافِ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ مِمَّا يَقِفُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا.
فَإِنَّ قَوْلَ الْقَابِلَةِ يُقْبَلُ فِي الْوَلَدِ فَلَا يَحْكُمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مَا لَمْ تَشْهَدْ الْقَابِلَةُ بِهِ، وَالْحَيْضُ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهَا، فَإِنْ شَهِدَتْ الْقَابِلَةُ بِالْوِلَادَةِ، ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ بِشَهَادَتِهَا، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ رَجُلَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا وِلَادَتُهَا، وَقَدْ صَارَ مَحْكُومًا بِهِ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ بِدَلِيلِ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ.
وَشَهَادَةُ الْقَابِلَةِ فِي حَالِ قِيَامِ الْفِرَاشِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ فِي حَقِّ النَّسَبِ وَغَيْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِجَارِيَتِهِ: إنْ كَانَ بِهَا حَبَلٌ فَهُوَ مِنِّي فَشَهِدَتْ الْقَابِلَةُ عَلَى وِلَادَتِهَا، صَارَتْ هِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ وَلَدًا ثُمَّ قَالَ الزَّوْجُ: هُوَ لَيْسَ مِنِّي وَلَا أَدْرِي وَلَدْته أَمْ لَا فَشَهِدَتْ الْقَابِلَةُ، حُكِمَ بِاللِّعَانِ بَيْنَهُمَا.
وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا أَوْ حُرًّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَإِذَا جُعِلَتْ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ حُجَّةً فِي حُكْمِ اللِّعَانِ وَالْحَدِّ، فَلَأَنْ تُجْعَلَ حُجَّةً فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ أَوْلَى.
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: شَرْطُ الطَّلَاقِ إذَا كَانَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّهَادَةِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ شَرْطَ الطَّلَاقِ كَنَفْسِ الطَّلَاقِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ أَصْلِيَّةٍ، وَإِنَّمَا يُكْتَفَى بِهَا فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ؛
لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ.
وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوَاضِعَهَا، وَالضَّرُورَةُ فِي نَفْسِ الْوِلَادَةِ وَمَا هُوَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِثُبُوتِ نَسَبِهِ، وَالْوِلَادَةُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ وَالْحُكْمُ الْمُخْتَصُّ بِالْوِلَادَةِ أُمِّيَّةُ الْوَلَدِ لِلْأُمِّ، وَاللِّعَانُ عِنْدَ نَفْيِ الْوَلَدِ، فَأَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَيْسَ مِنْ الْحُكْمِ الْمُخْتَصِّ بِالْوِلَادَةِ وَلَا أَثَرَ لِلْوِلَادَةِ فِيهِ بَلْ إنَّمَا يَقَعُ بِإِيقَاعِهِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَنَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْوِلَادَةِ مَعَ أَنَّ النَّسَبَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِعَيْنِ الْوَلَدِ فَإِنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ، وَبِأَنْ يَجْعَلَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ حُجَّةً فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ حُجَّةً فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ كَمَا بَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ: إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَفُلَانَةُ مَعَك.
وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ أَقَرَّ بِأَنَّهَا حُبْلَى ثُمَّ قَالَ لَهَا: إذَا وَلَدْت، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ قَدْ وَلَدْت، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا، وَعِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ إلَّا أَنْ تَشْهَدَ الْقَابِلَةُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الطَّلَاقِ وِلَادَتُهَا، وَذَلِكَ مَا يَقِفُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ مُجَرَّدُ قَوْلِهَا كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَلَا تَرَى أَنَّ نَسَبَ الْوِلَادَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ، وَإِنْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالْحَبَلِ فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: عُلِّقَ الطَّلَاقُ بِبُرُوزٍ مَوْجُودٍ فِي بَاطِنِهَا فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُجَرَّدِ خَبَرِهَا كَمَا لَوْ قَالَ: إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْحَبَلِ بِهَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ فَلَمَّا جَاءَتْ الْآنَ، وَهِيَ فَارِغَةٌ، وَتَقُولُ: قَدْ وَلَدْتُ، فَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهَا، أَوْ يَتَيَقَّنُ بِوِلَادَتِهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ بِقَوْلِهَا يَثْبُتُ مُجَرَّدُ الْوِلَادَةِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ تَعَيُّنُ هَذَا الْوَلَدِ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْ غَيْرَ هَذَا مِنْ وَالِدٍ مَيِّتٍ ثُمَّ تُرِيدُ حَمْلَ نَسَبِ هَذَا الْوَلَدِ عَلَيْهِ فَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي تَعْيِينِ الْوَلَدِ إلَّا بِشَهَادَةِ الْوَالِدِ.
فَأَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْوِلَادَةِ أَيِّ وَلَدٍ كَانَ مِنْ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ، وَبَعْدَ إقْرَارِ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ يَتَيَقَّنُ بِالْوِلَادَةِ، إذَا جَاءَتْ وَهِيَ فَارِغَةٌ.
(قَالَ): وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: إذَا وَلَدْتِ وَلَدَيْنِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلَدًا آخَرَ، فَقَدْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ بِوِلَادَةِ الْوَلَدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ؛ لِتَمَامِ الشَّرْطِ بِهِمَا، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْوَلَدِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ وَضَعَتْ جَمِيعَ مَا فِي بَطْنِهَا فَإِنَّ الْوَلَدَ الرَّابِعَ مِنْ حَبَلٍ حَادِثٍ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ التَّوْأَمَ لَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا مُدَّةُ حَبَلٍ تَامٍّ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ الرَّابِعِ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ: أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ لَا يَعْلَمُ أَيُّهُمَا أَوَّلٌ، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ فِي الْحُكْمِ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا ثُمَّ الْغُلَامَ، وَفِي النُّزْهَةِ قَدْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا فَوَقَعَ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ، ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَةِ الْجَارِيَةِ فِي هَذَا الْوَجْهِ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ حَتَّى يُوقِعَ عَلَيْهَا طَلَاقًا مُسْتَقْبَلًا، وَتَعْتَدَّ بِعِدَّةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ؛ لِأَنَّهَا فِي الْحُكْمِ امْرَأَتُهُ فَإِنَّ الطَّلَاقَ بِالشَّكِّ لَا يَقَعُ فِي الْحُكْمِ فَلِهَذَا يَحْتَاجُ فِي حِلِّهَا لِلْأَزْوَاجِ إلَى إيقَاعٍ مُسْتَقْبَلٍ وَعِدَّةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ.
(قَالَ): وَإِذَا قَالَ لَهَا: كُلَّمَا وَلَدْت وَلَدَيْنِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْهُمَا فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي بَطْنَيْنِ، فَهُوَ سَوَاءٌ، وَيَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ بِالْوَلَدِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الشَّرْطِ بِهِ وَلَا فَرْقَ فِي الشَّرْطِ بَيْنَ أَنْ يُوجَدَا مَعًا أَوْ مُتَفَرِّقَيْنِ، وَلَوْ وَلَدَتْ الثَّانِيَ وَهِيَ لَيْسَتْ فِي نِكَاحِهِ وَلَا فِي عِدَّتِهِ، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، يَقَعُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِالتَّعْلِيقِ السَّابِقِ، وَقَدْ صَحَّ فِي مِلْكِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّحِيحَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ جُنَّ ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ، تَطْلُقُ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ التَّعْلِيقِ لَا وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: أَوْ أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِوُقُوعِ طَلَاقِهِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي نِكَاحِهِ وَلَا فِي عِدَّتِهِ.
وَبِدُونِ الْمَحَلِّ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِخِلَافِ جُنُونِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ لَا يُعْدِمُ الْمَحَلِّيَّةَ إنَّمَا يُعْدِمُ الْأَهْلِيَّةَ لِلْإِيقَاعِ، وَالْإِيقَاعُ بِكَلَامِ الزَّوْجِ، وَذَلِكَ عِنْدَ التَّعْلِيقِ لَا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ قِيَامُ الْأَهْلِيَّةِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَوْ أَبَانَهَا فَوَلَدَتْ الْأَوَّلَ فِي غَيْرِ نِكَاحِهِ وَعِدَّتِهِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَوَلَدَتْ، عِنْدَنَا، يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ وِلَادَةَ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ شَرْطٌ لِلطَّلَاقِ لِوِلَادَةِ الْوَلَدِ الثَّانِي.
، فَكَمَا لَا يُعْتَبَرُ قِيَامُ الْمِلْكِ لِلْوُقُوعِ عِنْدَ وِلَادَةِ الْوَلَدِ الثَّانِي، فَكَذَلِكَ عِنْدَ وِلَادَةِ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ، وَعُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُونَ: الْمَحَلُّ إنَّمَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ التَّعْلِيقِ لِصِحَّةِ التَّعْلِيقِ بِوُجُودِ الْمَحْلُوفِ بِهِ، وَعِنْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ لِنُزُولِ الْجَزَاءِ، فَأَمَّا فِي حَالِ وِلَادَةِ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِحَالِ التَّعْلِيقِ وَلَا حَالِ نُزُولِ الْجَزَاءِ إنَّمَا هُوَ حَالُ بَقَاءِ الْيَمِينِ.
وَمِلْكُ الْمَحَلِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ، فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ وَدَخَلَ الدَّارَ، عَتَقَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِوُجُودِ بَعْضِ الشَّرْطِ لَا يَنْزِلُ شَيْءٌ مِنْ الْجَزَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ فِي رَجَبٍ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا: إذَا جَاءَ يَوْمُ الْأَضْحَى، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ أَبَانَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فَجَاءَ يَوْمُ الْأَضْحَى، طَلُقَتْ، وَمَا لَمْ يَمْضِ الشَّهْرُ لَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُ الشَّرْطِ بِمَجِيءِ يَوْمِ الْأَضْحَى ثُمَّ لَا يُعْتَبَرُ قِيَامُ الْمَحَلِّ فِي تِلْكَ الشُّهُورِ.
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ قَالَ: إذَا حِضْت حَيْضَتَيْنِ فَحَاضَتْ الْأُولَى فِي غَيْرِ مِلْكٍ، وَالثَّانِيَةَ فِي مِلْكٍ، وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ تَطْهُرَ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ بِسَاعَةٍ، أَوْ بَعْدَ مَا انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ قَبْلَ أَنْ تَطْهُرَ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ بِسَاعَةٍ، أَوْ بَعْدَ مَا انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ قَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ، وَأَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ، فَإِذَا اغْتَسَلَتْ أَوْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ، طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَمَّ وَهِيَ فِي نِكَاحِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ أَكَلْتِ هَذَا الرَّغِيفَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَكَلَتْ عَامَّةَ الرَّغِيفِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَأَكَلَتْ مَا بَقِيَ مِنْهُ طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ شَرْطٌ فِي مِلْكِهِ، وَالْحِنْثُ بِهِ يَحْصُلُ، وَقَدْ قَالَ فِي الْأَصْلِ: إذَا قَالَ: كُلَّمَا حِضْتِ حَيْضَتَيْنِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَحَاضَتْ الْأَخِيرَةَ مِنْهُمَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَحَاضَتْ الثَّانِيَةَ فِي مِلْكِهِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ قَالَ الْحَاكِمُ: وَهَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ سَدِيدٍ فِي قَوْلِهِ كُلَّمَا حِضْت، وَإِنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ السُّؤَالُ بِقَوْلِهِ إذَا حِضْت؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ: فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ لَا تَطْلُقُ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ تَطْلُقُ، وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي كَيْفِيَّةِ التَّكْرَارِ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَتَكَرَّرُ انْعِقَادُ الْيَمِينِ فَكُلَّمَا وُجِدَ الشَّرْطُ مَرَّةً ارْتَفَعَتْ الْيَمِينُ الْأُولَى، وَانْعَقَدَتْ يَمِينٌ أُخْرَى فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ فِي نِكَاحِهِ وَلَا فِي عِدَّتِهِ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَحَلِّ شَرْطٌ عِنْدَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ فَلِهَذَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ، وَإِنْ حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ فِي مِلْكِهِ.
وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ إنَّمَا يَتَكَرَّرُ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا نُزُولُ الْجَزَاءِ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ وَلَا يَتَكَرَّرُ انْعِقَادُ الْيَمِينِ فَكُلَّمَا وُجِدَ الشَّرْطُ فِي مِلْكِهِ طَلُقَتْ، وَالْأَصَحُّ رِوَايَةُ الْجَامِعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَ هَذَا الْكَلَامِ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ.
(قَالَ): وَإِنْ قَالَ: إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الطَّلَاقِ حَيْضُهَا، وَالنِّفَاسُ لَيْسَ بِحَيْضٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُحْتَسَبُ بِهِ مِنْ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ قَالَ: إذَا حَبِلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَوَطِئَهَا مَرَّةً فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا ثَانِيَةً حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ قَدْ حَبِلَتْ فَطَلُقَتْ ثَلَاثًا، وَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ عَرَفْنَا أَنَّهَا لَمْ تَحْبَلْ، فَإِنْ تَبَيَّنَ فَرَاغُ رَحِمِهَا يَحْصُلُ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ بِدَلِيلِ الِاسْتِبْرَاءِ فَلَهُ أَنْ يَطَأَهَا مَرَّةً أُخْرَى، وَهَذَا حَالُهُ وَحَالُهَا مَادَامَ عِنْدَهُ، وَهُوَ جَوَابُ النُّزْهَةِ.
فَأَمَّا فِي الْحُكْمِ لَا يُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا مَا لَمْ يَظْهَرْ بِهَا حَبَلٌ؛ لِأَنَّ قِيَامَ النِّكَاحِ فِيمَا بَيْنَهُمَا يَقِينٌ، وَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ شَكٌّ، وَإِذَا وَلَدَتْ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ هَذَا الْحَبَلَ كَانَ قَبْلَ الْيَمِينِ، وَشَرْطُ الْحِنْثِ حَبَلٌ حَادِثٌ بَعْدَ الْيَمِينِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِالْوَلَدِ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِنْ حَبَلٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْيَمِينِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الطَّلَاقُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَهُوَ مَا إذَا لَوْ حَبِلَتْ فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْوَلَدِ وَجَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ وَلَكِنْ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ لَمْ تَطْلُقْ أَيْضًا؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَلَدُ مِنْ حَبَلٍ قَبْلَ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَبْقَى فِي الْبَطْنِ إلَى سَنَتَيْنِ.
وَمَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِوُجُودِ الشَّرْطِ بَعْدَ الْيَمِينِ لَا يَنْزِلُ الْجَزَاءُ وَالْحِلُّ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بَيْنَهُمَا يَسْنُدُ الْعُلُوقَ إلَى أَبْعَدِ الْأَوْقَاتِ تَحَرُّزًا عَنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ بِالشَّكِّ.
(قَالَ): وَإِذَا قَالَ لَهَا: إذَا وَضَعْت مَا فِي بَطْنِك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِآخِرِهِمَا، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ حَرْفَ مَا يُوجِبُ التَّعْمِيمَ، فَشَرْطُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَنْ تَضَعَ جَمِيعَ مَا فِي بَطْنِهَا، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْوَلَدِ الثَّانِي، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: إنْ كَانَ حَمْلُك هَذَا جَارِيَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ غُلَامًا فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا فِي بَطْنِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، وَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا إلَّا بِوَضْعِ جَمِيعِ مَا فِي بَطْنِهَا.
فَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ حَمْلِهَا غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حِينَ وَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَالَ: إنْ كَانَ مَا فِي هَذَا الْجُوَالِقِ حِنْطَةً فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ، وَإِنْ كَانَ مَا فِيهِ شَعِيرًا فَعَبْدُهُ حُرٌّ، فَإِذَا فِيهِ شَعِيرٌ وَحِنْطَةٌ لَمْ يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ وَلَا عِتْقٌ.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ امْتَحَنَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِطْنَةَ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا تَقُولُ فِي عَنْزٍ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ لَا ذَكَرَيْنِ وَلَا أُنْثَيَيْنِ، وَلَا أَسْوَدَيْنِ وَلَا أَبْيَضَيْنِ؟ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا؟ فَتَأَمَّلَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: أَحَدُهُمَا ذَكَرٌ وَالْآخَرُ أُنْثَى، وَأَحَدُهُمَا أَسْوَدُ، وَالْآخَرُ أَبْيَضُ فَتَعَجَّبَ مِنْ فِطْنَتِهِ.
وَإِنْ قَالَ لَهَا: كُلَّمَا حَبِلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ حَبَلٍ حَادِثٍ فَقَدْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ كَمَا حَبَلَتْ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْوِلَادَةِ، وَلَوْ كَانَ جَامَعَهَا بَعْدَ الْحَبَلِ قَبْلَ أَنْ تَلِدَ مِنْهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ رَجْعَةً؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ بِهَذَا اللَّفْظِ كَانَ رَجْعِيًّا، وَالْوَطْءُ فِي الْعِدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ يَكُونُ رَجْعَةً، فَإِنْ حَبَلَتْ مَرَّةً أُخْرَى، طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا، وَكَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ الثَّالِثِ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ تَلِدِي فَهِيَ طَالِقٌ حِينَ سَكَتَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا طَالِقًا فِي وَقْتٍ لَا تَلِدُ فِيهِ بَعْدَ الْيَمِينِ، وَكَمَا سَكَتَ فَقَدْ وَجَدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ مَا لَمْ تَحْبَلِي، وَفِي قَوْلِهِ مَا لَمْ تَحِيضِي إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهَا مَعَ سُكُوتِهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَقَعُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِحَيْضٍ بِزَمَانٍ، وَهُوَ مَا بَعْدَ كَلَامِهِ وَقَدْ جَعَلَهَا طَالِقًا إلَى غَايَةٍ وَهُوَ أَنْ تَحِيضَ أَوْ تَحْبَلَ أَوْ تَلِدَ.
فَإِذَا وُجِدَتْ الْغَايَةُ مُتَّصِلًا بِسُكُوتِهِ فَقَدْ انْعَدَمَ الزَّمَانُ الَّذِي أَوْقَعَ فِيهِ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ غَايَةً لِنَفْسِهِ فَلَا تَطْلُقُ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ مَعَ سُكُوتِهِ فَقَدْ وُجِدَ الزَّمَانُ الَّذِي أَوْقَعَ فِيهِ الطَّلَاقَ فَتَطْلُقُ.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ تَحْبَلِي، أَوْ مَا لَمْ تَحِيضِي وَهِيَ حَائِضٌ فَهِيَ طَالِقٌ كَمَا سَكَتَ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ كَلَامِهِ لِحَبَلٍ وَحَيْضٍ حَادِثٍ، يُقَالُ حَبِلَتْ الْمَرْأَةُ وَحَاضَتْ عِنْدَ ابْتِدَاءِ ذَلِكَ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِسُكُوتِهِ فَلِهَذَا تَطْلُقُ، فَإِنْ كَانَ يَعْنِي مَا فِيهِ مِنْ الْحَبَلِ وَالْحَيْضِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْحَيْضِ بِخُرُوجِ الدَّمِ مِنْهَا سَاعَةً فَسَاعَةً وَمَا يَبْرُزُ مِنْهَا حَادِثٌ مِنْ وَجْهٍ فَيَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ ابْتِدَاءِ الْحَيْضِ مَجَازًا، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا فِي الْحَبَلِ فَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَدَّدُ الْحَبَلُ فِي مُدَّتِهِ سَاعَةً فَسَاعَةً فَلَا يَكُونُ لِاسْتِدَامَتِهِ اسْمَ الِابْتِدَاءِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: حَاضَتْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يُقَالُ: حَبِلَتْ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ إنَّمَا يُقَالُ حَبِلَتْ وَوَضَعَتْ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ.
وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: قَدْ طَلَّقْتُكِ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك، فَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ؛ وَلِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْإِيقَاعِ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَكَانَ نَافِيًا لِلْوُقُوعِ عَلَيْهَا لَا مُثْبِتًا؛ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ تُولَدِي، أَوْ تُخْلَقِي، أَوْ قَبْلَ أَنْ أُولَدَ أَوْ أَنْ أُخْلَقَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: قَدْ طَلَّقْتُك أَمْسِ، وَإِنَّمَا تَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْإِيقَاعِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَمْسِ طَلُقَتْ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ إلَى وَقْتٍ كَانَ مَالِكًا لِلْإِيقَاعِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَكَانَ كَلَامُهُ مُعْتَبَرًا فِي الْإِيقَاعِ ثُمَّ إنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي الْحَالِ مُسْتَنِدًا إلَى أَمْسِ، وَهُوَ يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ، وَلَكِنْ لَا يَمْلِكُ الْإِسْنَادَ فَلِهَذَا تَطْلُقُ فِي الْحَالِ.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ: قَدْ طَلَّقْتُك وَأَنَا صَغِيرٌ، أَوْ قَالَ: وَأَنَا نَائِمٍ لَمْ يَقَعْ بِهَذَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي صِحَّةَ الْإِيقَاعِ، فَكَانَ مُنْكِرًا لِلْإِيقَاعِ لَا مُقِرًّا بِهِ.
وَلَوْ قَالَ: وَأَنَا مَجْنُونٌ، فَإِنْ عُرِفَ بِالْجُنُونِ قَبْلَ هَذَا لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي صِحَّةَ الْإِيقَاعِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالْجُنُونِ طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِطَلَاقِهَا، وَأَضَافَهُ إلَى حَالَةٍ لَمْ تُعْرَفْ تِلْكَ الْحَالَةُ مِنْهُ؛ فَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فِي الْإِضَافَةِ فَلِهَذَا تَطْلُقُ فِي الْحَالِ.
، وَإِنْ قَالَ: قُلْت لَك أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا، وَقَالَتْ هِيَ: طَلَّقْتنِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ يَمِينٌ، وَالْيَمِينُ غَيْرُ الطَّلَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَا مَا لَمْ يُوجَدْ الْحِنْثُ فَهِيَ تَدَّعِي عَلَيْهِ إيقَاعَ الطَّلَاقِ، وَالزَّوْجُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، إنْ لَمْ أُطَلِّقْك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَمُوتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ إنْ لِلشَّرْطِ، فَقَدْ جَعَلَ عَدَمَ إيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا شَرْطًا، وَلَا يَتَيَقَّنُ بِوُجُودِ هَذَا الشَّرْطِ مَا بَقِيَا حَيَّيْنِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ.
ثُمَّ إنْ مَاتَ الزَّوْجُ وَقَعَ عَلَيْهَا قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ وَلَيْسَ لِذَلِكَ الْقَلِيلِ حَدٌّ مَعْرُوفٌ، وَلَكِنْ قُبَيْلَ مَوْتِهِ يَتَحَقَّقُ عَجْزُهُ مِنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فَيَتَحَقَّقُ شَرْطُ الْحِنْثِ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مِيرَاثَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمِيرَاثُ بِحُكْمِ الْفِرَارِ حِينَ وَقَعَ الثَّلَاثُ بِإِيقَاعِهِ قُبَيْلَ مَوْتِهِ بِلَا فَصْلٍ، وَإِنْ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ وَقَعَ الطَّلَاقُ أَيْضًا قَبْلَ مَوْتِهَا.
وَفِي النَّوَادِرِ يَقُولُ: لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا مَا لَمْ تَمُتْ، وَإِنَّمَا عَجَزَ بِمَوْتِهَا فَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ، لَوَقَعَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِيقَاعَ مِنْ حِكْمَةِ الْوُقُوعِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُوَ قَدْ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ إيقَاعِهِ قُبَيْلَ مَوْتِهَا؛ لِأَنَّهُ يَعْقُبُهُ الْوُقُوعُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ مَوْتِك فَيَقَعُ الطَّلَاقُ قُبَيْلَ مَوْتِهَا بِلَا فَصْلٍ.
وَلَا مِيرَاثَ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا قَبْلَ مَوْتِهَا بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَتَى لَمْ أُطَلِّقْك طَلُقَتْ كَمَا سَكَتَ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَتَى تُسْتَعْمَلُ لِلْوَقْتِ فَقَدْ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ بَعْدَ يَمِينِهِ لَا يُطَلِّقُهَا فِيهِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ الْوَقْتُ كَمَا سَكَتَ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: مَتَى مَا لَمْ أُطَلِّقْك.
فَأَمَّا إذَا قَالَ: إذَا لَمْ أُطَلِّقْك، أَوْ إذَا مَا لَمْ أُطَلِّقْك.
فَإِنْ قَالَ: عَنَيْت بِإِذَا الشَّرْطَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ حَتَّى يَمُوتَ أَحَدُهُمَا، وَإِنْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ مَتَى وَقَعَ الطَّلَاقُ كَمَا سَكَتَ؛ لِأَنَّ إذَا تُسْتَعْمَلُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَطْلُقُ حَتَّى يَمُوتَ أَحَدُهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا سَكَتَ يَقَعُ، وَأَصْلُ الْخِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ فَالْكُوفِيُّونَ مِنْهُمْ يَقُولُونَ إذَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْوَقْتِ وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ عَلَى السَّوَاءِ فَيُجَازَى بِهِ مَرَّةً وَلَا يُجَازَى بِهِ أُخْرَى، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ سَقَطَ فِيهِ مَعْنَى الْوَقْتِ أَصْلًا كَحَرْفِ أَنْ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْبَصْرِيُّونَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُونَ: إذَا لِلْوَقْتِ، وَلَكِنْ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ مَجَازًا، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ مَعْنَى الْوَقْتِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الشَّرْطُ بِمَنْزِلَةِ مَتَى وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَهُمَا يَقُولَانِ: إذَا تُسْتَعْمَلُ فِيمَا هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْخَطَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} وَ{إذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}.
وَيُقَالُ الرَّطْبُ إذَا اشْتَدَّتْ الْحَرُّ، وَالْبَرْدُ إذَا جَاءَ الشِّتَاءُ، وَالشَّرْطُ مَا هُوَ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لِلْوَقْتِ حَقِيقَةً فَعِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا شِئْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ يَخْرُجْ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا بِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: مَتَى شِئْت بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إنْ شِئْت.
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إذَا قَدْ تَكُونُ لِلشَّرْطِ حَقِيقَةً يَقُولُ الرَّجُلُ: إذَا زُرْتَنِي، زُرْتُك، وَإِذَا أَكْرَمْتَنِي، أَكْرَمْتُك، وَالْمُرَادُ الشَّرْطُ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْقَائِلِ شِعْرٌ: اسْتَغْنِ مَا أَغْنَاكَ رَبُّكَ بِالْغِنَى وَإِذَا تُصِبْكَ حُصَاصَةٌ فَتَحَمَّلْ مَعْنَاهُ وَإِنْ تُصِبْك، فَعِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ هُنَا، إنْ حُمِلَ عَلَى مَعْنَى الشَّرْطِ، لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ حَتَّى يَمُوتَ أَحَدُهُمَا.
وَإِنْ جُعِلَ بِمَعْنَى مَتَى، طَلُقَتْ فِي الْحَالِ، وَقَدْ عَرَفْنَا أَنَّ الطَّلَاقَ غَيْرُ وَاقِعٍ فَلَا نُوقِعُهُ بِالشَّكِّ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا بِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّا إنْ جَعَلْنَا إذَا بِمَعْنَى الشَّرْطِ، خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا.
وَإِنْ جَعَلْنَاهَا بِمَعْنَى مَتَى، لَمْ يَخْرُجْ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا، وَقَدْ عَرَفْنَا كَوْنَ الْأَمْرِ فِي يَدِهَا بِيَقِينٍ فَلَا نَخْرُجُهُ مِنْ يَدِهَا بِالشَّكِّ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إذَا سَكَتُّ عَنْ طَلَاقِك، فَأَنْتِ طَالِقٌ تَطْلُقُ كَمَا سَكَتَ، وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ سَكَتُّ، وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا لَمْ أُطَلِّقْكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَدْ دَخَلَ بِهَا ثُمَّ سَكَتَ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ لَا يُطَلِّقُهَا فِيهِ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا.
وَعَقِيبَ سُكُوتِهِ يُوجَدُ ثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، بَعْضُهَا عَلَى أَثَرِ الْبَعْضِ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا بِطَرِيقِ الْإِتْبَاعِ وَلَا يَقَعْنَ مَعًا حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ بِهَا لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ، وَإِنْ قَالَ: مَتَى مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ وَاحِدَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ مُوصِلًا بِكَلَامِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ اسْتِحْسَانًا، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا إلَّا وَاحِدَةٌ.
وَفِي الْقِيَاسِ تَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً يُوجَدُ وَقْتٌ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهِ، وَإِنْ لَطَّفَ، وَذَلِكَ يَكْفِي شَرْطًا لِلْحِنْثِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: الْبَرُّ مُرَادُ الْحَالِفِ، وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ الْبَرُّ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْقَدْرَ مُسْتَثْنًى، وَمَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ، يُجْعَلُ عَفْوًا.
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا قَالَ: إنْ رَكِبْتُ هَذِهِ الدَّابَّةَ، وَهُوَ رَاكِبُهَا فَأَخَذَ فِي النُّزُولِ فِي الْحَالِ، وَلَوْ سَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، فَقَدْ طَلُقَتْ ثَلَاثًا قَبْلَ قَوْلِهِ وَاحِدَةً، وَهَذَا: لِأَنَّ السُّكُوتَ فِيمَا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: مَا لَمْ أَقُمْ مِنْ مَقْعَدِي هَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، إنْ قَامَ كَمَا سَكَتَ لَمْ تَطْلُقْ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ سَكَتَ هُنَيْهَةً طَلُقَتْ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ حِينَ لَمْ أُطَلِّقَك وَلَا نِيَّةَ لَهُ، فَهِيَ طَالِقٌ كَمَا سَكَتَ؛ لِأَنَّ حَرْفَ لَمْ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَاضِي وَقَدْ مَضَى حِينَ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهِ، فَكَانَ الْوَقْتُ الْمُضَافُ إلَيْهِ الطَّلَاقُ مَوْجُودًا كَمَا سَكَتَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: زَمَانَ لَمْ أُطَلِّقْكِ، أَوْ يَوْمَ لَمْ أُطَلِّقْكِ، أَوْ حَيْثُ لَمْ أُطَلِّقْكِ؛ لِأَنَّ حَرْفَ حَيْثُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَكَانِ وَكَمْ مِنْ مَكَان لَمْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ، وَلَوْ قَالَ: حِينَ لَا أُطَلِّقُك لَا تَطْلُقُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ حَرْفَ لَا لِلِاسْتِقْبَالِ، وَإِنْ نَوَى بِحِينَ وَقْتًا يَسِيرًا أَوْ طَوِيلًا، تَعْمَلْ نِيَّتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، فَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَمَا لَمْ تَمْضِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ بَعْدَ يَمِينِهِ لَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ حِينَ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى سَاعَةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} أَيْ وَقْتَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ.
وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى قِيَامِ السَّاعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ}، وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ}.
وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} فَإِذَا نَوَى شَيْئًا، كَانَ الْمَنْوِيُّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، كَانَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ سُئِلَ عَمَّنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا حِينًا قَالَ: هُوَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّ النَّخْلَةَ يُدْرَكُ ثَمَرُهَا فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} وَلِأَنَّهُ مَتَى أَرَادَ بِهِ سَاعَةً، لَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ الْحِينِ عَادَةً، وَمَتَى أَرَادَ بِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، أَوْ قِيَامَ السَّاعَةِ، اُسْتُعْمِلَ فِيهِ لَفْظُ الْأَبَدِ فَتَعَيَّنَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مُرَادًا بِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: زَمَانَ لَا أُطَلِّقُك فَإِنَّ لَفْظَةَ حِينٍ وَزَمَانٍ يُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ لَمْ أَلْقَكَ مُنْذُ حِينٍ، وَلَمْ أَلْقَك مُنْذُ زَمَانٍ.
وَلَوْ قَالَ: يَوْمَ لَا أُطَلِّقُك فَإِذَا مَضَى بَعْدَ يَمِينِهِ يَوْمٌ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهِ، طَلُقَتْ حَتَّى إذَا قَالَ هَذَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَكَمَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ حَتَّى يُقَدَّرَ الصَّوْمُ بِالْإِمْسَاكِ فِيهِ.
(قَالَ): وَإِذَا قَالَ: يَوْمَ أَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَدَخَلَهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمئِذٍ دُبُرَهُ}، وَمَنْ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، يَلْحَقْهُ هَذَا الْوَعِيدُ، وَالرَّجُلُ يَقُولُ: أَنْتَظِرُ يَوْمَ فُلَانٍ أَيْ وَقْتَ إقْبَالِهِ، أَوْ إدْبَارِهِ.
فَإِذَا قُرِنَ بِمَا لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِ الْوَقْتَيْنِ وَلَا يَكُونُ مُمْتَدًّا، كَانَ بِمَعْنَى الْوَقْتِ كَالطَّلَاقِ، وَإِذَا قُرِنَ بِمَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِ الْوَقْتَيْنِ كَالصَّوْمِ، كَانَ بِمَعْنَى بَيَاضِ النَّهَارِ، وَكَذَلِكَ إذَا قُرِنَ بِمَا يَكُونُ مُمْتَدًّا كَقَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ يَوْمَ يَقْدُمُ فُلَانٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذَا قَالَ فِي الطَّلَاقِ: نَوَيْت النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، وَهِيَ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ: لَيْلَةَ أَدْخُلُهَا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَ نَهَارًا، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ اسْمٌ خَاصٌّ لِسَوَادِ اللَّيْلِ وَهُوَ ضِدُّ النَّهَارِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَنْوِيَ بِالشَّيْءِ ضِدَّهُ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إلَى حِينٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ إلَى قَرِيبٍ، فَإِنْ نَوَى فِيهِ شَيْئًا، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى مِنْ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا قَرِيبٌ، فَالْمَنْوِيُّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَفِي الْحِينِ وَالزَّمَانِ هِيَ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَفِي الْقَرِيبِ إلَى مُضِيِّ مَا دُونَ الشَّهْرِ حَتَّى إذَا مَضَى مِنْ وَقْتِ يَمِينِهِ شَهْرٌ إلَّا يَوْمًا طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ الْقَرِيبَ عَاجِلٌ وَالشَّهْرُ فَمَا فَوْقُهُ آجِلٌ، وَمَا دُونَ الشَّهْرِ عَاجِلٌ حَتَّى إذَا حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ حَقَّهُ عَاجِلًا فَقَضَاهُ فِيمَا دُونَ الشَّهْرِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَالْعَاجِلُ مَا يَكُونُ قَرِيبًا وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إلَى شَهْرٍ.
فَإِنْ نَوَى وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ، طَلُقَتْ وَلُغِيَ قَوْلُهُ إلَى شَهْرٍ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ مِنْ الطَّلَاقِ لَا يَحْتَمِلُ الْأَجَلَ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ، لَمْ تَطْلُقْ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: تَطْلُقُ فِي الْحَالِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إلَى شَهْرٍ؛ لِبَيَانِ الْأَجَلِ، وَالْأَجَلُ فِي الشَّيْءِ لَا يَنْفِي ثُبُوتَ أَصْلِهِ بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ أَصْلِهِ كَالْأَجَلِ فِي الدَّيْنِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الدَّيْنِ، فَكَذَلِكَ ذِكْرُ الْأَجَلِ هُنَا فِيمَا أَوْقَعَهُ لَا يَنْفِي الْوُقُوعَ فِي الْحَالِ، وَلَكِنْ يَلْغُو الْأَجَلُ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ مِنْ الطَّلَاقِ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَأَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُونَ: الْوَاقِعُ لَا يَحْتَمِلُ الْأَجَلَ، وَلَكِنَّ الْإِيقَاعَ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي التَّأْخِيرِ، وَالْإِيقَاعُ يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ.
وَلَوْ جَعَلْنَا حَرْفَ إلَى دَاخِلًا عَلَى أَصْلِ الْإِيقَاعِ كَانَ عَامِلًا فِي تَأْخِيرِ الْوُقُوعِ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ دَاخِلًا عَلَى الْحُكْمِ، كَانَ لَغْوًا، وَكَلَامُ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَهْمَا أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ لَا يَجُوزُ إلْغَاؤُهُ فَجَعَلْنَاهُ دَاخِلًا عَلَى أَصْلِ الْإِيقَاعِ، وَقُلْنَا بِتَأْخِيرِ الْوُقُوعِ إلَى مَا بَعْدَ الشَّهْرِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا، تَطْلُقُ كَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ الْغَدِ لِوُجُودِ الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ بِهِ آخِرَ النَّهَارِ لَمْ يُدَنْ بِهِ فِي الْقَضَاءِ، وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي لَفْظِ الْعُمُومِ فَإِنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ الْغَدِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا وَقَعَتْ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ، فَإِذَا نَوَى الْوُقُوعَ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْغَدِ، فَنِيَّتُهُ التَّخْصِيصَ فِي الْعُمُومِ صَحِيحَةٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا لَوْ قَالَ: لَا آكُلُ الطَّعَامَ، وَنَوَى طَعَامًا دُونَ طَعَامٍ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ طَلُقَتْ كَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ أَيْضًا، فَإِنْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ آخِرَ النَّهَارِ، صُدِّقَ فِي الْقَضَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يُصَدَّقْ عِنْدَهُمَا، ذُكِرَ الْخِلَافُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَهُمَا سَوَّيَا بَيْنَ قَوْلِهِ غَدٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي غَدٍ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ الْغَدِ، فَإِذَا عَنَى جُزْءًا خَاصًّا مِنْهُ، كَانَ هَذَا كُنْيَةَ التَّخْصِيصِ فِي لَفْظِ الْعُمُومِ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ: حَرْفُ فِي لِلظَّرْفِ، وَالظَّرْفُ قَدْ يَشْغَلُ جَمِيعَ الْمَظْرُوفِ، وَقَدْ يَشْغَلُ جُزْءًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قِيلَ: فِي الْجُوَالِقِ حِنْطَةٌ، لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوءًا مِنْ الْحِنْطَةِ.
فَإِذَا ذَكَرَ بَيْنَ الْوَصْفِ وَالْوَقْتِ حَرْفَ الظَّرْفِ؛ كَانَ كَلَامُهُ مُحْتَمَلًا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مَوْصُوفَةً بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ الْغَدِ، أَوْ فِي جُزْءٍ مِنْهُ، وَالنِّيَّةُ فِي الْكَلَامِ الْمُحْتَمَلِ صَحِيحَةٌ فِي الْقَضَاءِ.
وَالْوَقْتُ إنَّمَا يَكُونُ ظَرْفًا لِلطَّلَاقِ عَلَى أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا فِيهِ لَا أَنْ يَكُونَ شَاغِلًا لَهُ، وَالْوُقُوعُ يَكُونُ فِي جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ، فَكَانَ هَذَا أَقْرَبَ إلَى حَقِيقَةِ مَعْنَى الظَّرْفِ، وَإِذَا قَالَ: غَدًا، فَلَمْ يُدْخِلْ بَيْنَ الْوَصْفِ وَالْوَقْتِ حَرْفَ الظَّرْفِ، فَكَانَ حَقِيقَتُهُ الْوَصْفَ لَهَا بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ الْغَدِ فَلِهَذَا لَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِي التَّخْصِيصِ فِي الْقَضَاءِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي رَمَضَانَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ، فَهِيَ طَالِقٌ حِينَ تَغِيبُ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ؛ لِأَنَّهُ كَمَا رَأَى الْهِلَالَ فَقَدْ وُجِدَ جُزْءٌ مِنْ رَمَضَانَ، وَذَلِكَ يَكْفِي لِلْوُقُوعِ، وَإِنْ قَالَ: نَوَيْتُ آخِرَ رَمَضَانَ، فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ غَدًا فَهِيَ طَالِقٌ الْيَوْمَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ وَقْتَيْنِ غَيْرَ مَعْطُوفٍ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَفِي مِثْلِهِ الْوُقُوعُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتَيْنِ ذِكْرًا، وَهُوَ الْيَوْمُ، وَلَوْ قَالَ: غَدًا الْيَوْمَ، طَلُقَتْ غَدًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ تَنْجِيزٌ وَقَوْلَهُ: غَدًا إضَافَةٌ إلَى وَقْتٍ مُنْتَظَرٍ، وَالْمُنَجَّزُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ؛ فَكَانَ قَوْلُهُ غَدًا لَغْوًا، وَإِذَا قَالَ: أَوَّلًا غَدًا، كَانَ هَذَا إضَافَةَ الطَّلَاقِ إلَى وَقْتٍ مُنْتَظَرٍ، فَلَوْ نَجَّزَ بِذِكْرِهِ الْيَوْمَ لَمْ يَبْقَ مُضَافًا، وَقَوْلُهُ: الْيَوْمَ لَيْسَ بِنَاسِخٍ لِحُكْمِ أَوَّلِ كَلَامِهِ؛ فَكَانَ لَغْوًا، وَإِنْ قَالَ: الْيَوْمَ وَغَدًا؛ طَلُقَتْ لِلْحَالِ وَاحِدَةً لَا تَطْلُقُ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ لِلِاشْتِرَاكِ فَقَدْ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي الْوَقْتَيْنِ، وَهِيَ بِالتَّطْلِيقَةِ الْوَاحِدَةِ تَتَّصِفُ بِالطَّلَاقِ فِي الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا.
وَإِنْ قَالَ: غَدًا وَالْيَوْمَ تَطْلُقُ وَاحِدَةً الْيَوْمَ عِنْدَنَا، وَالْأُخْرَى غَدًا؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ الْجُمْلَةَ النَّاقِصَةَ عَلَى الْجُمْلَةِ الْكَامِلَةِ فَالْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فِي الْجُمْلَةِ الْكَامِلَةِ يَصِيرُ مُعَادًا فِي الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ فَإِنَّ الْعَطْفَ لِلِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْخَبَرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَأَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ.
وَعَنْ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ إلَّا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ صِيغَةَ كَلَامِهِ وَصْفٌ وَهِيَ بِالتَّطْلِيقَةِ الْوَاحِدَةِ تَتَّصِفُ بِأَنَّهَا طَالِقٌ فِي الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ السَّاعَةَ غَدًا؛ طَلُقَتْ لِلْحَالِ، وَكَانَ قَوْلُهُ غَدًا حَشْوًا لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ تِلْكَ السَّاعَةَ مِنْ الْغَدِ، لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ تَنْجِيزٌ، وَهُوَ يُرِيدُ بِنِيَّتِهِ صَرْفَ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ فَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ، وَهُوَ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِاحْتِمَالِ كَلَامِهِ الْمَنْوِيِّ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمِيرِهِ.
وَإِنْ قَالَ:
أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَهِيَ طَالِقٌ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إذَا جَاءَ غَدٌ تَعْلِيقٌ بِالشَّرْطِ، وَبِذِكْرِ الشَّرْطِ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ يَخْرُجُ كَلَامُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَنْجِيزًا، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ إذَا كَلَّمْتَ فُلَانًا، أَوْ إنْ كَلَّمَتْ فُلَانًا، لَمْ تَطْلُقْ قَبْلَ الْكَلَامِ وَيَتَبَيَّنُ بِذِكْرِ الشَّرْطِ أَنَّ قَوْلَهُ: الْيَوْمَ لِبَيَانِ وَقْتِ التَّعْلِيقِ لَا لِبَيَانِ وَقْتِ الْوُقُوعِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: الْيَوْمَ غَدًا فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِذِكْرِ الشَّرْطِ فَبَقِيَ قَوْلُهُ: الْيَوْمَ بَيَانًا لِوَقْتِ الْوُقُوعِ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ، كَانَتْ طَالِقًا أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتَيْنِ فَيَقَعُ عِنْدَ أَوَّلِ الْوَقْتَيْنِ ذِكْرًا.
وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي رَمَضَانَ، فَهُوَ عَلَى أَوَّلِ رَمَضَانَ يَجِيءُ، هُوَ الظَّاهِرُ الْمَعْلُومُ بِالْعَادَةِ مِنْ كَلَامِهِ، كَمَا لَوْ ذَكَرَ الْأَجَلَ فِي الْيَمِينِ إلَى رَمَضَانَ، أَوْ أَجَّرَ دَارِهِ إلَى رَمَضَانَ فَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ الثَّانِيَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى تَخْصِيصِ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ كَلَامِهِ أَنْ تَكُونَ مَوْصُوفَةً بِالطَّلَاقِ فِي كُلِّ رَمَضَانَ يَجِيءُ بَعْدَ يَمِينِهِ، فَإِذَا عَيَّنَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، كَانَ هَذَا تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ، وَتَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالنِّيَّةِ صَحِيحٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْقَضَاءِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ السَّبْتِ فَهُوَ عَلَى أَوَّلِ سَبْتٍ فَإِنْ قَالَ: عَنَيْت الثَّانِيَ، لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ قَالَ: طَالِقٌ بِمَكَّةَ أَوْ فِي مَكَّةَ طَلُقَتْ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي مَكَان مَوْجُودٍ، وَالطَّلَاقُ لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان، وَلَكِنْ إذَا وَقَعَ عَلَيْهَا فِي مَكَان تَتَّصِفُ بِهِ فِي الْأَمْكِنَةِ كُلِّهَا، فَإِنْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ إذَا أَتَيْت مَكَّةَ، لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ، وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمَكَانَ وَعَبَّرَ بِهِ عَنْ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ فِيهِ، وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْمَجَازِ مُخَالِفٌ لِلْحَقِيقَةِ وَالظَّاهِرِ فَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي ثَوْبِ كَذَا وَعَلَيْهَا غَيْرُهُ طَلُقَتْ لِأَنَّ وَصْفَهُ إيَّاهَا بِالطَّلَاقِ لَا يَخْتَصُّ بِثَوْبٍ دُونَ ثَوْبٍ، فَإِنْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ إذَا لَبِسَتْ ذَلِكَ الثَّوْبَ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ ذِكْرَ الثَّوْبِ كِنَايَةً عَنْ فِعْلِ اللُّبْسِ فِيهِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْمَجَازِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فِي الدَّارِ أَوْ فِي الْبَيْتِ أَوْ فِي الظِّلِّ أَوْ فِي الشَّمْسِ، وَإِنْ قَالَ: فِي ذَهَابِك إلَى مَكَّةَ أَوْ فِي دُخُولِ الدَّارِ أَوْ فِي لُبْسِك ثَوْبَ كَذَا لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَرْفَ فِي لِلظَّرْفِ، وَالْفِعْلُ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا لِلطَّلَاقِ عَلَى أَنْ يَكُونَ شَاغِلًا لَهُ فَيُحْمَلُ عَلَى مَعْنَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْمَظْرُوفَ يَسْبِقُ الظَّرْفَ كَمَا أَنَّ الشَّرْطَ يَسْبِقُ الْجَزَاءَ وَيَجْعَلُ حَرْفَ فِي بِمَعْنَى مَعَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أَيْ مَعَ عِبَادِي وَيُقَالُ: دَخَلَ الْأَمِيرُ الْبَلْدَةَ فِي جُنْدِهِ أَيْ مَعَهُمْ.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ دُخُولِك الدَّارَ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَدْخُلَ فَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: فِي الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَعَ الدَّارِ طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهُ قَرَنَ الطَّلَاقَ بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ تُصَلِّينَ طَلُقَتْ لِلْحَالِ: لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنْتِ تُصَلِّينَ ابْتِدَاءٌ فَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ إذَا صَلَّيْتُ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَا يُعْطَفُ عَلَى الْجَزَاءِ، وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْحَالِ تَقُولُ: دَخَلْتُ الدَّارَ عَلَى فُلَانٍ، وَهُوَ يَفْعَلُ كَذَا أَيْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَيَكُونُ مَعْنَى هَذَا أَنْتِ طَالِقٌ فِي حَالِ اشْتِغَالِك بِالصَّلَاةِ فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِاحْتِمَالِ لَفْظِهِ مَا نَوَى، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مُصَلِّيَةً فِي الْقَضَاءِ تَطْلُقُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ قَالَ: عَنَيْت إذَا صَلَّيْتِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الْحَالِ.
وَأَهْلُ النَّحْوِ يَقُولُونَ إنْ قَالَ: مُصَلِّيَةٌ بِالرَّفْعِ لَا يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ قَالَ: مُصَلِّيَةً بِالنَّصْبِ حِينَئِذٍ يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ أَيْضًا وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ أَهْلِ النَّحْوِ وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي مَرَضِك أَوْ فِي وَجَعِك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَكُونَ مِنْهَا ذَلِكَ الْفِعْلُ إمَّا؛ لِأَنَّ حَرْفَ فِي بِمَعْنَى مَعَ أَوْ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ وَالْوَجَعَ لَمَّا لَمْ يَصْلُحْ ظَرْفًا حُمِلَ عَلَى مَعْنَى الشَّرْطِ مَجَازًا لِتَصْحِيحِ كَلَامِ الْعَاقِلِ.
وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ قُدُومِ فُلَانٍ بِشَهْرٍ فَقَدِمَ فُلَانٌ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ مُنْتَظَرٍ وَهُوَ أَوَّلُ شَهْرٍ يَتَّصِلُ بِآخِرِهِ قُدُومُ فُلَانٍ فَيُرَاعَى وُجُودُ هَذَا الْوَقْتِ بَعْدَ الْيَمِينِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِ فُلَانٍ بِشَهْرٍ فَمَاتَ فُلَانٌ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ، لَمْ تَطْلُقْ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا فِي النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ رَمَضَانَ بِشَهْرٍ تَطْلُقُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ قَدْ تَيَقَّنَ مُضِيُّهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَنْجِيزًا مِنْهُ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ.
فَأَمَّا إذَا قَدِمَ فُلَانٌ أَوْ مَاتَ لِتَمَامِ الشَّهْرِ فَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا يَقَعُ الطَّلَاقُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ حَتَّى تُعْتَبَرَ الْعِدَّةُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلَوْ كَانَ وَطِئَهَا فِي الشَّهْرِ صَارَ مُرَاجِعًا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَفِي الْبَائِنِ يَلْزَمُهُ مَهْرٌ بِالْوَطْءِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقَعُ الطَّلَاقُ مَقْصُورًا عَلَى حَالَةِ الْقُدُومِ وَالْمَوْتِ حَتَّى تُعْتَبَرَ الْعِدَّةُ فِي الْحَالِ، وَلَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا بِالْوَطْءِ فِي الشَّهْرِ، وَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ مَهْرٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِي الْقُدُومِ الْجَوَابُ كَمَا قَالَا، وَفِي الْمَوْتِ الْجَوَابُ كَمَا قَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِإِيقَاعِهِ إنَّمَا يَقَعُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَوْقَعَهُ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِي أَوَّلِ شَهْرٍ يَتَّصِلُ بِآخِرِهِ قُدُومُ فُلَانٍ أَوْ مَوْتُهُ فَيَقَعُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ الْوَقْتُ بَعْدَ الْيَمِينِ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَنَا مَا لَمْ يُوجَدْ الْقُدُومُ وَالْمَوْتُ، فَإِذَا صَارَ مَعْلُومًا لَنَا، تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ وَاقِعًا كَمَا قَالَ لَهَا: إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَرَأَتْ الدَّمَ لَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ حَتَّى يَسْتَمِرَّ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ وَاقِعًا عِنْدَ رُؤْيَةِ الدَّمِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إنْ كَانَ فِي بَطْنِك غُلَامٌ؛ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يُحْكَمُ بِالْوُقُوعِ حَتَّى تَلِدَ، فَإِذَا وَلَدَتْ غُلَامًا تَبَيَّنَ أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ وَاقِعًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أُوقِعَ عِنْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ بَعْدَ الْقُدُومِ أَوْ الْمَوْتِ لَا يَقَعُ إلَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَكَذَلِكَ إذَا أُوقِعَ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ، وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك بِشَهْرٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ شَهْرٍ لَمْ تَطْلُقْ.
وَلَوْ انْتَصَبَ التَّزَوُّجُ شَرْطًا وَكَانَ أَوَانُ الْوُقُوعِ بَعْدَهُ لَطَلُقَتْ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: وُقُوعُ الطَّلَاقِ تَوَقَّفَ بِكَلَامِهِ عَلَى وُجُودِ الْقُدُومِ وَالْمَوْتِ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ شَرْطٌ مَعْنًى،
وَالْجَزَاءُ يَتَأَخَّرُ عَنْ الشَّرْطِ ثُمَّ هَذَا فِي الْقُدُومِ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ، وَفِي الشَّرْطِ مَعْنَى الْخَطَرِ وَالْمَوْتِ.
وَإِنْ كَانَ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ وَلَكِنْ مَضَى الشَّهْرُ بَعْدَ كَلَامِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَكُنْ كَائِنًا عِنْدَ يَمِينِهِ لَا مَحَالَةَ وَلِهَذَا قَالَ: لَوْ مَاتَ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ، لَمْ تَطْلُقْ وَلِأَنَّ الْمَوْتَ قَدْ يَتَقَدَّمُ وَقَدْ يَتَأَخَّرُ؛ فَكُلُّ شَهْرٍ يَمْضِي بَعْدَ يَمِينِهِ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ الْوَقْتُ الْمُضَافُ إلَيْهِ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يَتَّصِلْ الْمَوْتُ بِآخِرِهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ كَمَا فِي الْقُدُومِ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ؛ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَقْدُمَ أَصْلًا فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الشَّرْطِ أَيْضًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك بِشَهْرٍ فَإِنَّ الْإِضَافَةَ هُنَا لَغْوٌ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلطَّلَاقِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَضَافَ إلَيْهِ، وَاعْتِبَارُ مَعْنَى الشَّرْطِ بَعْدَ صِحَّةِ الْإِضَافَةِ.
وَفِي مَسْأَلَةِ الْحَيْضِ الشَّرْطُ يُوجَدُ بِرُؤْيَةِ قَطْرَةٍ مِنْ الدَّمِ، وَلَكِنْ لَا يُحْكَمُ بِالطَّلَاقِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَنْقَطِعَ قَبْلَ تَمَامِ الثَّلَاثِ فَلَمْ يَكُنْ وُقُوعُ الطَّلَاقِ هُنَاكَ مَوْقُوفًا عَلَى وُجُودِ أَمْرٍ مُنْتَظَرٍ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْحَبَلِ كَلَامُهُ تَنْجِيزٌ لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ يَكُونُ تَنْجِيزًا فَلَمْ يَكُنْ الْوُقُوعُ مَوْقُوفًا عَلَى أَمْرٍ مُنْتَظَرٍ، وَلَكِنَّا لَا نَحْكُمُ بِهِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ؛ لِعَدَمِ عِلْمِنَا بِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ.
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: إنَّ مَوْتَ فُلَانٍ حَقٌّ كَائِنٌ، وَقُدُومُهُ لَا يَدْرِي أَيَكُونُ أَوْ لَا يَكُونُ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ شَرْطًا بِذِكْرِ حَرْفِ الشَّرْطِ فِيهِ، أَوْ وُجُودِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَلَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الشَّرْطِ فِي الْفَصْلَيْنِ وَلَكِنْ وُجِدَ مَعْنَى الشَّرْطِ فِي مَسْأَلَةِ الْقُدُومِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ عَلَى خَطَرٍ وَهُوَ مِمَّا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِهِ وَالنَّهْيُ عَنْهُ وَهَذَا مَعْنَى الشَّرْطِ فَإِنَّ الْحَالِفَ يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ مَنْعَ الشَّرْطِ.
فَإِذَا تَوَقَّفَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى وُجُودِهِ وَفِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، انْتَصَبَ شَرْطًا، فَأَمَّا الْمَوْتُ فَلَا خَطَرَ فِي وُجُودِهِ بَلْ هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِهِ وَالنَّهْيُ عَنْهُ فَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ بِهَذَا الْكَلَامِ مَنْعَ الْمَوْتِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، كَانَ مُعَرِّفًا لِلْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ فَإِنَّمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مِنْ أَوَّلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ رَمَضَانَ بِشَهْرٍ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ شَعْبَانَ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ الْوَقْتَ يَصِيرُ مَعْلُومًا قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ، وَهُنَا لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا مَا لَمْ يَمُتْ، فَإِذَا صَارَ مَعْلُومًا لَنَا، تَبَيَّنَ أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ وَاقِعًا مِنْ أَوَّلِهِ.
(وَالثَّانِي) أَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي أَوَّلِ شَهْرٍ يَتَّصِلُ بِآخِرِهِ قُدُومُ فُلَانٍ أَوْ مَوْتُهُ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْقُدُومِ هَذَا الِاتِّصَالُ لَا يَقَعُ أَصْلًا إلَّا بَعْدَ الْقُدُومِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَا يَقْدَمُ أَصْلًا، وَبِدُونِ هَذَا الِاتِّصَالِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ أَصْلًا، أَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ، هَذَا الِاتِّصَالُ ثَابِتٌ قَبْلَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ كَائِنٌ فَيُعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ فِي الشُّهُورِ الَّتِي تَأْتِي شَهْرًا مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَكِنْ لَا يُدْرَى أَيُّ شَهْرٍ ذَاكَ فَلَا يُحْكَمُ بِالطَّلَاقِ مَا لَمْ يَصِرْ مَعْلُومًا لَنَا، فَإِذَا صَارَ مَعْلُومًا، تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ وَاقِعًا مِنْ أَوَّلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، يُقَرِّرُهُ أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ الْوَقْتَ الْمُضَافَ إلَيْهِ يَصِيرُ مَعْلُومًا قَبْلَ حَقِيقَةِ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ صَارَ الْوَقْتُ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَعْلُومًا فَلِهَذَا لَا يَتَأَخَّرُ الطَّلَاقُ عَنْ الْمَوْتِ.
وَفِي مَسْأَلَةِ الْقُدُومِ لَا يَصِيرُ الْوَقْتُ مَعْلُومًا مَا لَمْ يُوجَدْ حَقِيقَةُ الْقُدُومِ؛ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَقْدَمَ فَلِهَذَا تَأَخَّرَ الطَّلَاقُ عَنْهُ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا قَبْلَ مَوْتِك بِشَهْرٍ فَمَاتَتْ قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرِ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْوَقْتُ الْمُضَافُ إلَيْهِ بَعْدَ الْيَمِينِ، فَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ وَقَعَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقَعُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ فَلَا مِيرَاثَ لَهُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ جَامَعَهَا فِي الشَّهْرِ، فَعَلَيْهِ مَهْرٌ آخَرُ لَهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ جَامَعَهَا بَعْدَ وُقُوعِ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قُتِلَتْ أَوْ غَرِقَتْ فَهَذَا مَوْتٌ، وَإِنْ كَانَ بِسَبَبٍ مَخْصُوصٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ ثُمَّ مَاتَ لِتَمَامِ الشَّهْرِ عِنْدَهُمَا لَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ وَقَعَ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَتَبَيَّنُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ حَتَّى إذَا كَانَ صَحِيحًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ الْأَضْحَى بِتِسْعَةِ أَيَّامٍ فَهِيَ طَالِقٌ حِينَ يَنْسَلِخُ ذُو الْقِعْدَةِ؛ لِعِلْمِنَا بِوُجُودِ الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ بِشَهْرٍ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ الْمُضَافَ إلَيْهِ بَعْدَ يَمِينِهِ لَمْ يُوجَدْ: فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ طَلُقَتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا مُسْتَنِدًا إلَى أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَعِنْدَهُمَا طَلُقَتْ فِي الْحَالِ بِخِلَافِ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ قُدُومِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ بِشَهْرٍ فَقَدِمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَقْدَمَ الْآخَرُ، وَبِهَذَا يَتَّضِحُ فَرْقُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْقُدُومَ يَنْتَصِبُ شَرْطًا، وَالْمَوْتُ لَا يَنْتَصِبُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي وَقْتٍ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ قَبْلَ قُدُومِهِمَا بِشَهْرٍ وَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِقُدُومِ أَحَدِهِمَا؛ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَقْدَمَ الْآخَرُ أَصْلًا.
فَأَمَّا فِي الْمَوْتِ يَصِيرُ ذَلِكَ الْوَقْتُ مَعْلُومًا بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ مَوْتَ الْآخَرِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ طَعَنَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا وَقَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا فَإِنَّ الْوَقْتَ إنَّمَا يَصِيرُ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِمَا بِشَهْرٍ إذَا مَاتَا مَعًا، فَأَمَّا إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا، وَبَقِيَ الْآخَرُ زَمَانًا، فَأَوَّلُ هَذَا الشَّهْرِ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ قَبْلَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا بِشَهْرٍ، وَقَبْلَ الْآخَرِ بِسَنَةٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَوْتُهُمَا مَعًا نَادِرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَقْصِدُ ذَلِكَ.
وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ، فَأَوَّلُ هَذَا الشَّهْرِ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِمَا بِشَهْرٍ فِي عُرْفِ اللِّسَانِ كَمَا يُقَالُ: رَمَضَانُ قَبْلَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى بِشَهْرٍ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْأَضْحَى بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَأَكْثَرَ (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ السَّاعَةَ إنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ فُلَانًا يَقْدَمُ إلَى شَهْرٍ فَقَدِمَ فُلَانٌ لِتَمَامِ الشَّهْرِ طَلُقَتْ بَعْدَ الْقُدُومِ، وَهُوَ دَلِيلٌ لَهُمَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى مُحِيطٌ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا كَمَا أَنَّ الْمَوْتَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ إلَى شَهْرٍ؛ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى لَا طَرِيقَ لِلْحَالِفِ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَإِنَّمَا تَنْبَنِي الْأَحْكَامُ عَلَى مَا يَكُونُ لَنَا طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إنْ قَدِمَ فُلَانٌ إلَى شَهْرٍ فَلِهَذَا تَأَخَّرَ الْوُقُوعُ إلَى الْقُدُومِ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: أَطْوَلُكُمَا حَيَاةً طَالِقٌ السَّاعَةَ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ حَتَّى تَمُوتَ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ طُولُ الْحَيَاةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمَاضِي حَتَّى إذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا بِنْتَ عَشْرِ سِنِينَ، وَالْأُخْرَى بِنْتَ سِتِّينَ سَنَةً لَمْ تَطْلُقْ الْعَجُوزُ فَعَرَفْنَا أَنَّ طُولَ الْحَيَاةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُرَادٌ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَمُوتَا مَعًا، فَإِنْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا طَلُقَتْ الْأُخْرَى فِي الْحَالِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى طَلُقَتْ مِنْ حِينِ تَكَلَّمَ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ أَطْوَلُهُمَا حَيَاةً، وَأَنَّ الزَّوْجَ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَرْطٍ مَوْجُودٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَعْنَى كَلَامِ الزَّوْجِ الَّتِي تَبْقَى مِنْكُمَا بَعْدَ مَوْتِ الْأُخْرَى طَالِقٌ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ قَبْلَ مَوْتِ إحْدَاهُمَا بَلْ هُوَ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَمُوتَا مَعًا فَلِهَذَا انْتَصَبَ شَرْطًا.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ: يَا زَيْنَبُ، فَأَجَابَتْهُ عَمْرَةُ؛ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا طَلُقَتْ الَّتِي أَجَابَتْهُ، لِأَنَّهُ أَتْبَعَ الْإِيقَاعَ الْجَوَابَ فَيَصِيرُ مُخَاطِبًا لِلْمُجِيبَةِ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت زَيْنَبَ قُلْنَا تَطْلُقُ زَيْنَبُ بِقَصْدِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ فَتَطْلُقُ عَمْرَةُ أَيْضًا بِالظَّاهِرِ كَمَا لَوْ قَالَ: زَيْنَبُ طَالِقٌ، وَلَهُ امْرَأَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِهَذَا الِاسْمِ تَطْلُقُ، فَإِنْ قَالَ: لِي امْرَأَةٌ أُخْرَى بِهَذَا الِاسْمِ تَزَوَّجْتهَا سِرًّا، وَإِيَّاهَا عَنَيْت قُلْنَا تَطْلُقُ تِلْكَ بِنِيَّتِهِ، وَالْمَعْرُوفَةُ بِالظَّاهِرِ، وَلَوْ قَالَ: يَا زَيْنَبُ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ طَلُقَتْ زَيْنَبُ؛ لِأَنَّهُ أَتْبَعَ الْإِيقَاعَ النِّدَاءَ فَيَكُونُ خِطَابًا لِلْمُنَادَى وَهِيَ زَيْنَبُ.
وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يُشِيرُ إلَيْهَا: يَا زَيْنَبُ أَنْتِ طَالِقٌ فَإِذَا هِيَ عَمْرَةُ طَلُقَتْ عَمْرَةُ، إنْ كَانَتْ امْرَأَتَهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ امْرَأَتُهُ، لَمْ تَطْلُقْ زَيْنَبُ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِالْإِشَارَةِ أَبْلَغُ مِنْ التَّعْرِيفِ بِالِاسْمِ، فَإِنَّ التَّعْرِيفَ بِالْإِشَارَةِ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَبِالِاسْمِ لَا، فَكَانَ هَذَا أَقْوَى، وَلَا يَظْهَرُ الضَّعِيفُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ؛ فَكَانَ هُوَ مُخَاطِبًا بِالْإِيقَاعِ لِمَنْ أَشَارَ إلَيْهَا خَاصَّةً، وَإِنْ قَالَ: يَا زَيْنَبُ أَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يُشِرْ إلَى شَيْءٍ غَيْرَ أَنَّهُ رَأَى شَخْصًا فَظَنَّهَا زَيْنَبَ، وَهِيَ غَيْرُهَا طَلُقَتْ زَيْنَبُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ بَنَى الْإِيقَاعَ عَلَى التَّعْرِيفِ بِالِاسْمِ هُنَا فَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْمُسَمَّاةِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِظَنِّهِ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَا يَحْصُلُ بِهِ فِي الظَّاهِرِ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ.
فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَطْلُقُ هِيَ وَلَا الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ عَنَاهَا بِقَلْبِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي ضَمِيرِهِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ الْإِيقَاعُ عَلَى زَيْنَبَ الَّتِي لَمْ يَعْنِهَا بِقَلْبِهِ، وَعَلَى الَّتِي عَنَاهَا بِقَلْبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَاطِبْهَا بِلِسَانِهِ حِينَ أَتْبَعَ الْخِطَابَ النِّدَاءَ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا وَأَشَارَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَإِنْ أَشَارَ بِأُصْبُعَيْنِ فَهِيَ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ، وَإِنْ أَشَارَ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْأَصَابِعِ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِالْعَدَدِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وَخَنَّسَ إبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ» فَيَكُونُ ذَلِكَ بَيَانًا أَنَّ الشَّهْرَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا.
ثُمَّ الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْإِشَارَةِ أَنَّهَا تَقَعُ بِالْأَصَابِعِ الْمَنْشُورَةِ لَا بِالْأَصَابِعِ الْمَعْقُودَةِ، وَالْعُرْفُ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا، وَكَذَلِكَ الشَّرْعُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَنَّسَ إبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِمَا نَشَرَ مِنْ الْأَصَابِعِ دُونَ مَا عَقَدَ حَتَّى لَوْ قَالَ: عَنَيْت الْإِشَارَةَ بِالْأُصْبُعَيْنِ اللَّتَيْنِ عَقَدْت لَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ، وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِكَوْنِ مَا قَالَ مُحْتَمَلًا، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: عَنَيْت الْإِشَارَةَ بِالْكَفِّ دُونَ الْأَصَابِعِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِكَوْنِهِ مُحْتَمَلًا، وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا.
وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُونَ إنْ جَعَلَ ظَهْرَ الْكَفِّ إلَيْهَا، وَالْأَصَابِعَ الْمَنْشُورَةَ إلَى نَفْسِهِ، دِينَ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ جَعَلَ الْأَصَابِعَ الْمَنْشُورَةَ إلَيْهَا، لَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ، وَإِذَا أَشَارَ بِأَصَابِعِهِ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يَقُلْ هَكَذَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ لَا يَتَّصِلُ بِإِشَارَتِهِ إلَّا بِقَوْلِهِ: هَكَذَا فَإِذَا لَمْ يَقُلْ كَانَ وُجُودُ الْإِشَارَةِ كَعَدَمِهَا فَتَطْلُقُ وَاحِدَةً بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ ثَلَاثًا فَأَمْسَكَ رَجُلٌ عَلَى فِيهِ، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا بَعْدَ ذِكْرِ الطَّلَاقِ فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِلَفْظِهِ لَا بِقَصْدِهِ، وَهُوَ مَا تَلَفَّظَ إلَّا بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ.
وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الرَّجُلُ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ قَوْلِهِ: ثَلَاثًا فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ قَوْلِهِ: ثَلَاثًا فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ وَصَلَ لَفْظَ الطَّلَاقِ بِذِكْرِ الْعَدَدِ، فَيَكُونُ الْعَامِلُ هُوَ الْعَدَدَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْعَدَدِ حَصَلَ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَأَمَّا إذَا مَاتَ الرَّجُلُ، فَلَفْظُ الطَّلَاقِ هُنَا لَمْ يَتَّصِلْ بِذِكْرِ الْعَدَدِ فَبَقِيَ قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ فَمَاتَتْ الْمَرْأَةُ قَبْلَ ذِكْرِ الثَّانِيَةِ، طَلُقَتْ وَاحِدَةً؛ لِمَا قُلْنَا أَنَّ كَلَامَهُ هُنَا إيقَاعٌ عَامِلٌ فِي الْوُقُوعِ، فَإِنَّمَا يَقَعُ مَا صَادَفَهَا وَهِيَ حَيَّةٌ دُونَ مَا صَادَفَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَمَاتَتْ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ الْكَلَامِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمَعْطُوفَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ إذَا اتَّصَلَ الشَّرْطُ بِآخِرِهِ؛ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيقَاعًا كَمَا إذَا اتَّصَلَ الِاسْتِثْنَاءُ بِهِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ اتِّصَالُ الشَّرْطِ بِالْكَلَامِ بَعْدَ مَوْتِهَا.
وَإِنْ قَالَ: إحْدَى امْرَأَتَيَّ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَذَلِكَ إلَيْهِ يُوقِعُهَا عَلَى أَيَّتِهِمَا شَاءَ فَإِنَّ إيجَابَ الطَّلَاقِ فِي الْمَجْهُولِ صَحِيحٌ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ نُفَاةُ الْقِيَاسِ، وَحُجَّتُنَا عَلَيْهِمْ الْحَدِيثُ «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ»، ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّ الْإِيجَابَ فِي الْمَجْهُولِ يَصِحُّ فِيمَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُعَلَّقِ بِخَطَرِ الْبَيَانِ فِي حَقِّ الْعَيْنِ وَلِأَنَّ مَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الضِّيقِ، وَهُوَ الْبَيْعُ يَصِحُّ إيجَابُهُ فِي الْمَجْهُولِ إذَا كَانَ لَا يُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَهُوَ مَا إذَا بَاعَ قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ فَفِيمَا يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى السِّعَةِ؛ لَأَنْ يَصِحَّ إيجَابُهُ فِي الْمَجْهُولِ كَانَ أَوْلَى.
وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ هُنَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَنْفَرِدُ بِالْبَيَانِ كَمَا يَنْفَرِدُ بِالْإِيقَاعِ فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت هَذِهِ حِينَ تَكَلَّمْت فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْإِيقَاعِ عَلَيْهَا فَيَصِحُّ بَيَانُهُ أَيْضًا، وَمَا فِي ضَمِيرِهِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا إلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ، وَإِنْ قَالَ: مَا نَوَيْت وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا يُقَالُ لَهُ: أَوْقِعْ الْآنَ عَلَى أَيَّتِهِمَا شِئْتَ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ الْأَوَّلَ كَانَ عَلَى مُنَكَّرٍ، وَأَحْكَامُ الطَّلَاقِ تَتَقَرَّرُ فِي الْمُنَكَّرِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ فَلِهَذَا يُقَالُ لَهُ: أَوْقِعْ عَلَى أَيَّتِهِمَا شِئْت.
وَإِنْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ طَلُقَتْ الْبَاقِيَةُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ لَا يَتَبَيَّنُ قَبْلَ الْمَوْتِ فِي إحْدَاهُمَا لِمُزَاحَمَةِ الْأُخْرَى مَعَهَا وَقَدْ زَالَتْ بِالْمَوْتِ فَإِنَّ الَّتِي مَاتَتْ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ، وَتَعْيِينُ الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ فِي حَقِّ الْعَيْنِ كَابْتِدَاءِ الْإِيقَاعِ، فَإِذَا خَرَجَتْ إحْدَاهُمَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ تَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى، وَإِنْ قَالَ: عَنَيْت الْمَيِّتَةَ حِينَ تَكَلَّمْتُ صُدِّقَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى يُبْطِلَ مِيرَاثَهُ عَنْهَا وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى إبْطَالِ الطَّلَاقِ عَنْ الْحَيَّةِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ تَعَيَّنَ فِيهَا شَرْعًا فَلَا يَمْلِكُ صَرْفَ الطَّلَاقِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ.
(قَالَ): وَإِنْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَاطَّلَعَتْ إحْدَاهُنَّ، فَقَالَ الزَّوْجُ الَّتِي اطَّلَعَتْ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ لَمْ يَعْلَمْ أَيَّتُهُنَّ هِيَ، وَقَدْ عَلِمَ الزَّوْجُ أَنَّهَا كَانَتْ إحْدَاهُنَّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ حَتَّى يَعْلَمَ الْمُطَلَّقَةَ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ هُنَا عَلَى الْمُعَيَّنَةِ ابْتِدَاءً فَتَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ.
وَلَا طَرِيقَ إلَى التَّحَرِّي فِي هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ إنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ بِالضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْفَرْجِ، وَلَيْسَ لَهُ الْبَيَانُ بِالْإِيقَاعِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ عَلَى الْمُعَيَّنَةِ هُنَا، وَقَدْ تَمَّ بِخِلَافِ الْأَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْإِبْهَامَ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهِ، بَلْ بِاخْتِلَاطِ الْمُطَلَّقَةِ بِغَيْرِهَا بِخِلَافِ الْأَوْلَى، فَالْإِبْهَامُ هُنَاكَ مِنْهُ، فَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُطَلِّقَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً، وَيَتْرُكَهُنَّ حَتَّى يَبِنَّ، وَلَا يَتَزَوَّجَ شَيْئًا مِنْهُنَّ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَّتُهُنَّ صَاحِبَةُ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالِاحْتِيَاطِ فِي بَابِ الْفَرْجِ وَاجِبٌ شَرْعًا، وَالِاحْتِيَاطُ فِي هَذَا.
(قَالَ): فَإِنْ تَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ قَبْلَ أَنْ تَعْلَمَ فَخَاصَمَتْهُ فِي الطَّلَاقِ يَحْلِفُ لَهَا؛ لِأَنَّهَا تَزْعُمُ أَنَّهَا الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا، وَالزَّوْجُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ الْخُصُومَةُ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا كَانَ يَحْلِفُ لَهَا فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ، فَإِنْ حَلَفَ أَمْسَكَهَا؛ لِأَنَّا عَرَفْنَاهَا فِي الْأَصْلِ غَيْرَ مُطَلَّقَةٍ ثَلَاثًا فَحِينَ حَلَفَ؛ بَقِيَ الْأَمْرُ فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا كَانَ مَعْلُومًا لَنَا قَبْلَ هَذَا، وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ، وَتَزَوَّجْنَ بِأَزْوَاجٍ غَيْرِهِ، وَدَخَلَ بِهِنَّ أَزْوَاجُهُنَّ، ثُمَّ فَارَقُوهُنَّ نَكَحَ أَيَّتَهنَّ شَاءَ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا مِنْهُنَّ قَدْ حَلَّتْ لَهُ بِإِصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي؛ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ.
وَإِنْ ادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنَّهَا الْمُطَلَّقَةُ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهَا، وَجَحَدَ الزَّوْجُ يَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا هِيَ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ تَدَّعِي عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ، فَإِنْ حَلَفَ لَهُنَّ جَمِيعًا بَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى مَا كَانَ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا مُجَازَفَتَهُ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ، فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ فِيهِنَّ، وَالْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ لَا تَرْفَعُ الْحُرْمَةَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا حَلَفَ لِثَلَاثٍ مِنْهُنَّ تَعَيَّنَتْ لِلطَّلَاقِ الرَّابِعَةُ، وَلَا يَحْلِفُ لَهَا وَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ لَهُنَّ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ أَنَّهَا الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا.
(قَالَ): وَإِذَا قَالَ لِنِسْوَةٍ لَهُ: أَيَّتُكُنَّ أَكَلَتْ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ فَهِيَ طَالِقٌ فَأَكَلْنَهُ؛ طَلُقْنَ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَيَّ تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى الِانْفِرَادِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، وَقَالَ تَعَالَى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا}، وَحَرْفُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، فَصَارَ مُعَلِّقًا طَلَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِتَنَاوُلِهَا شَيْئًا مِنْ الطَّعَامِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي حَقِّهِنَّ جَمِيعًا.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَيَّتُكُنَّ دَخَلَتْ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلْنَهَا؛ طَلُقْنَ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَيَّتُكُنَّ شَاءَتْ فَهِيَ طَالِقٌ فَشِئْنَ جَمِيعًا.
وَلَوْ قَالَ: أَيَّتُكُنَّ بَشَّرَتْنِي بِكَذَا، فَهِيَ طَالِقٌ فَبَشَّرْنَهُ جَمِيعًا مَعًا؛ طَلُقْنَ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَإِنْ بَشَّرَتْهُ وَاحِدَةٌ بَعْدَ أُخْرَى طَلُقَتْ الْأُولَى وَحْدَهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْبَشِيرَةُ فَإِنَّ الْبِشَارَةَ اسْمٌ لِخَبَرٍ سَارٍّ صِدْقٍ غَابَ عَنْ الْمُخْبَرِ عِلْمُهُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ كُلُّ خَبَرٍ غَابَ عَنْ الْمُخْبَرِ بِهِ عِلْمُهُ، إذَا كَانَ صِدْقًا، فَهُوَ بِشَارَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَبِشَرِّهِمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا الْخَبَرُ بِشَارَةً؛ لِتَغَيُّرِ بَشَرَةِ الْوَجْهِ عِنْدَ سَمَاعِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ مُحْزِنًا يَتَغَيَّرُ إلَى الصُّفْرَةِ، وَإِنْ كَانَ سَارًّا إلَى الْحُمْرَةِ، وَلَكِنْ فِي الْعُرْفِ إنَّمَا يُطْلَقُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْخَبَرِ السَّارِّ، وَإِنَّمَا وُجِدَ هَذَا فِي الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ بِمَا غَابَ عَنْهُ عِلْمُهُ.
فَأَمَّا الثَّانِيَةُ أَخْبَرَتْهُ بِمَا كَانَ مَعْلُومًا لَهُ، فَكَانَتْ مُخْبِرَةً لَا بَشِيرَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا طَرِيًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ» فَاسْتَبَقَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْ يُخْبِرَاهُ فَسَبَقَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: بَشَّرَنِي بِهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَخْبَرَنِي بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(قَالَ): قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ مِلْءَ الدَّارِ، أَوْ مِلْءَ الْجُبِّ، فَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ، وَإِلَّا فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَمْلَأُ الْوِعَاءَ الْعَظِيمَةَ فِي نَفْسِهِ تَارَةً؛ وَلِكَثْرَةِ عَدَدِهِ أُخْرَى، فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ، عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ كَثْرَةَ الْعَدَدِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَكْثَرَ الْعَدَدِ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْوَصْفَ بِعِظَمِ التَّطْلِيقَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْتَدَّ حُكْمُهَا، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ؛ لِأَنَّ فِي وُقُوعِ الْوَاحِدَةِ يَقِينًا، وَفِيمَا زَادَ عَلَيْهِ شَكًّا، وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ، فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مُجَرَّدُ الْعَدَدِ، وَذَلِكَ لَا يَسَعُ فِي هَذَا اللَّفْظِ، وَإِنْ قَالَ: وَاحِدَةٌ تَمْلَأُ الدَّارَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَلَا تَسَعُ نِيَّةُ الثَّلَاثِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْوَاحِدَةِ فَيَبْقَى مَعْنَى الْوَصْفِ بِالْعِظَمِ فَتَكُونُ بَائِنَةً.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا تَكُونُ رَجْعِيَّةً؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِمَا لَا يُوصَفُ بِهِ فَكَانَ لَاغِيًا فِي وَصْفِهِ كَمَا لَوْ قَالَ: تَطْلِيقَةٌ تَصِيحُ، أَوْ تَطِيرُ كَانَ هَذَا الْوَصْفُ لَغْوًا، ثُمَّ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَتَى صَرَّحَ بِلَفْظِ الْعِظَمِ يَكُونُ الْوَاقِعُ بَائِنًا سَوَاءٌ شَبَّهَهَا بِعَظِيمٍ، أَوْ صَغِيرٍ حَتَّى إذَا قَالَ: عِظَمَ الْجَبَلِ أَوْ عِظَمَ رَأْسِ الْإِبْرَةِ أَوْ الْخَرْدَلَةِ تَكُونُ بَائِنَةً، وَإِنْ لَمْ تُوصَفْ بِالْعِظَمِ، وَلَكِنْ قَالَ: مِثْلَ الْجَبَلِ، أَوْ مِثْلَ رَأْسِ الْإِبْرَةِ تَكُونُ رَجْعِيَّةً، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَكُونُ بَائِنًا، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إذَا شَبَّهَ التَّطْلِيقَةَ بِمَا يَكُونُ عَظِيمًا عِنْدَ النَّاسِ كَالْجَبَلِ، تَقَعُ بَائِنَةً، وَإِذَا شَبَّهَهَا بِمَا يَكُونُ حَقِيرًا كَالْخَرْدَلَةِ تَكُونُ رَجْعِيَّةً.
وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً عَظِيمَةً، أَوْ كَبِيرَةً، أَوْ شَدِيدَةً، أَوْ طَوِيلَةً، أَوْ عَرِيضَةً فَوَصَفَهَا بِشَيْءٍ يُشَدِّدُهَا بِهِ؛ فَهِيَ بَائِنَةٌ فِي الْقَضَاءِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مُرَادَهُ مَعْنَى الشِّدَّةِ عَلَيْهَا فِي حُكْمِهَا، وَذَلِكَ فِي الْبَائِنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّدَارُكِ بِخِلَافِ الرَّجْعِيِّ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إلَى الصِّينِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِفْهَا بِعِظَمٍ، وَلَا كِبَرٍ إنَّمَا مَدّهَا إلَى مَكَان، وَالطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ نَفْسَهُ، وَلَا حُكْمَهُ وَلِأَنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ قَصَرَ حُكْمَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا إذَا وَقَعَتْ تَكُونُ وَاقِعَةً مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ، فَلَا يَثْبُتُ بِهَذَا اللَّفْظِ زِيَادَةُ شِدَّةٍ.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إلَى الشِّتَاءِ فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً بَعْدَ الْأَجَلِ كَمَا فِي إلَى شَهْرٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إلَى الصَّيْفِ، وَمَعْرِفَةُ دُخُولِ الشِّتَاءِ بِلُبْسِ أَكْثَرِ النَّاسِ الْفَرْوَ، وَالثَّوْبَ الْمَحْشُوَّ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَدُخُولِ الصَّيْفِ بِإِلْقَاءِ أَكْثَرِ النَّاسِ ذَلِكَ حَتَّى يَتَعَجَّبَ مِمَّنْ يُرَى عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالرَّبِيعُ فِي آخِرِ الشِّتَاءِ قَبْلَ دُخُولِ الصَّيْفِ إذَا كَانَ النَّاسُ بَيْنَ لَابِسٍ لِلْمَحْشُوِّ، وَغَيْرِ لَابِسٍ لَا يَعِيبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ الْخَرِيفُ فِي آخِرِ الصَّيْفِ قَبْلَ دُخُولِ الشِّتَاءِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَقِيلَ: الرَّبِيعُ إذَا نَبَتَ الْعُشْبُ، وَالصَّيْفُ إذَا احْتَرَقَ الْعُشْبُ وَجَفَّ، وَالْخَرِيفُ إذَا أَخَذَ النَّاسُ فِي التَّأَهُّبِ لِلشِّتَاءِ، وَالشِّتَاءُ إذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ اثْنَتَيْنِ، فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ لَا بَلْ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ بِإِقَامَةِ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ، وَالرُّجُوعِ عَنْ الْأَوَّلِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَمَّا أَوْقَعَهُ وَلَكِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إيقَاعِ أُخْرَيَيْنِ، إذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا لِهَذَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى لَا إلَى عِدَّةٍ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْهَا، وَلَا عَلَى إقَامَةِ الثِّنْتَيْنِ مَقَامَهَا بِإِيقَاعِهِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ فَلُغِيَ آخِرُ كَلَامِهِ، وَإِنْ قَالَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا: نَوَيْت بِالِاثْنَتَيْنِ تِلْكَ الْوَاحِدَةَ، وَأُخْرَى مَعَهَا لَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الثِّنْتَيْنِ غَيْرُ الْوَاحِدَةِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ؛ وَلِأَنَّ كَلَامَهُ إيقَاعُ مُبْتَدَأٌ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مَدِينٌ؛ لِأَنَّ مَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ.
(قَالَ): وَإِذَا قَالَ: قَدْ كُنْتُ طَلَّقْتُكِ أَمْسِ وَاحِدَةً، لَا، بَلْ اثْنَتَيْنِ فَهِيَ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ تَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فِي الْإِيقَاعِ؛ لِأَنَّ اثْنَتَيْنِ غَيْرُ وَاحِدَةٍ فَرُجُوعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْوَاحِدَةِ بَاطِلٌ، وَإِقْرَارُهُ بِالثِّنْتَيْنِ صَحِيحٌ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَقُولُ الْإِقْرَارُ إخْبَارٌ، وَهُوَ مِمَّا يَتَكَرَّرُ بِخِلَافِ الْإِيقَاعِ، وَالْعَادَةِ.
الظَّاهِرُ أَنَّ فِي الْإِخْبَارِ بِهَذَا اللَّفْظِ يُرَادُ تَدَارُكُ الْغَلَطِ بِإِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْعَدَدِ الْأَوَّلِ مَعَ إعَادَتِهَا فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ: حَجَجْتُ حَجَّةً، لَا، بَلْ حَجَّتَيْنِ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْإِخْبَارِ حَجَّتَيْنِ، وَإِذَا قَالَ: سِنِّي سِتُّونَ سَنَةً لَا، بَلْ سَبْعُونَ، يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْإِخْبَارِ سَبْعِينَ لَا غَيْرُ، وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَعَارَفِ فَلِهَذَا تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ، وَإِنْ قَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ، لَا بَلْ فُلَانَةُ طَلُقَتَا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الثَّانِيَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا خَبَرًا فَيَكُونُ خَبَرُ الْأُولَى خَبَرًا لَهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا، بَلْ فُلَانَةُ طَالِقٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَا، بَلْ فُلَانَةُ، أَوْ قَالَ، بَلْ فُلَانَةُ تَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا.
وَإِنْ قَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ ثَلَاثًا، لَا بَلْ فُلَانَةُ طَالِقٌ طَلُقَتْ الْأُولَى ثَلَاثًا، وَالثَّانِيَةُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لِلثَّانِيَةِ خَبَرًا فَوَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ بِذَلِكَ عَنْ جَعْلِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ خَبَرًا لَهَا.
وَإِنْ قَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ، أَوْ فُلَانَةُ طَلُقَتْ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّ مُوجِبَ كَلِمَةِ أَوْ إذَا دَخَلَتْ بَيْنَ اثْنَيْنِ إثْبَاتُ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ، بَيَانُهُ فِي آيَةِ الْكَفَّارَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إحْدَاهُمَا طَالِقٌ، وَمَنْ يَقُولُ أَنَّ حَرْفَ أَوْ لِلتَّشْكِيكِ، فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّشْكِيكَ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا لِيُوضَعَ لَهُ حَرْفٌ، وَلَكِنَّ حَقِيقَتَهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ مُوجِبَهُ إثْبَاتُ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ فَالْخِيَارُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ حَرْفَ أَوْ بَيْنَ عَدَدَيْنِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَحَدَهُمَا، وَالْبَيَانُ إلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: كُلَّمَا حَبِلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَكُلَّمَا وَلَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَحَبِلَتْ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ، وَوَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَقَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا حِينَ حَبِلَتْ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِالْوِلَادَةِ فَلَا يَقَعُ بِهِ عَلَيْهَا شَيْءٌ، فَإِنْ كَانَ وَطِئَهَا، وَهِيَ حُبْلَى، فَذَلِكَ مِنْهُ رَجْعَةٌ، ثُمَّ تَطْلُقُ بِالْوِلَادَةِ تَطْلِيقَةً أُخْرَى بِالْكَلَامِ الثَّانِي، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَهُوَ أَمْلَكُ بِرَجْعَتِهَا، فَإِنْ حَبِلَتْ، وَقَعَتْ الثَّالِثَةُ عَلَيْهَا بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ، ثُمَّ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ وَضَعَتْ جَمِيعَ مَا فِي بَطْنِهَا.
(قَالَ): رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَةٍ لَا يَمْلِكُهَا: يَوْمَ أَتَزَوَّجُك فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَالَ، إنْ تَزَوَّجْتُك، أَوْ إذَا تَزَوَّجْتُك، أَوْ مَتَى تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَطَالِقٌ، وَطَالِقٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَطْلُقُ ثَلَاثًا، حُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَّقَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ مُجْتَمِعَاتٍ بِشَرْطِ التَّزَوُّجِ فَيَقَعْنَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ مَعًا كَمَا لَوْ أَخَّرَ الشَّرْطَ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَطَالِقٌ، وَطَالِقٌ إذَا تَزَوَّجْتُك، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ دُونَ التَّرْتِيبِ، بَيَانُهُ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ ثَبَتَتْ بِهِ فَرْضِيَّةُ الطَّهَارَةِ فِي الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ، وَالرَّجُلُ يَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو فَيَكُونُ مُخْبِرًا بِمَجِيئِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ بَيْنَهُمَا فِي الْمَجِيءِ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: وَطَالِقٌ جُمْلَةٌ نَاقِصَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ التَّامَّةِ، فَالْمَذْكُورُ فِي الْجُمْلَةِ التَّامَّةِ يَصِيرُ مُعَادًا فِي الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} مَعْنَاهُ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ فَهُنَا يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَنْتِ طَالِقٌ إذَا تَزَوَّجْتُك، وَأَنْتِ طَالِقٌ إذَا تَزَوَّجْتُك، وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا طَلُقَتْ ثَلَاثًا جُمْلَةً، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَبِأَنْ كَانَ لَوْ نَجَّزَ الطَّلَاقَ بِهَذَا اللَّفْظِ يَتَفَرَّقُ الْوُقُوعُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا عَلَّقَ يَتَفَرَّقُ كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا، بَلْ اثْنَتَيْنِ فَدَخَلَتْ الدَّارَ؛ تَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَلَوْ نَجَّزَ بِهَذَا اللَّفْظِ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُنَجَّزَ طَلَاقٌ فَتَبِينُ بِالْأُولَى قَبْلَ ذِكْرِ الثَّانِيَةِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ طَلَاقًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَمَا صَحَّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ جُمْلَةً إذَا لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: تَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ فَيَقَعْنَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَبَعْدَهَا أُخْرَى، وَبَعْدَهَا أُخْرَى، فَإِذَا وَقَعْنَ مُتَفَرِّقَاتٍ، بَانَتْ بِالْأُولَى فَلَا تَقَعُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ كَمَا لَوْ نَجَّزَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ فِي اللُّغَةِ لِعَطْفٍ مُطْلَقٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْتَضِيَ جَمْعًا، وَلَا تَرْتِيبًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: جَاءَنِي زَيْدٌ، وَعَمْرٌو، لَا يَقْتَضِي جَمْعًا حَتَّى يَسْتَقِيمَ أَنْ يَقُولَ وَعَمْرٌو بَعْدَهُ كَمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَقُولَ: وَعَمْرٌو مَعَهُ، فَإِذَا كَانَ لِلْعَطْفِ فَالتَّطْلِيقَةُ الْأُولَى تَعَلَّقَتْ بِالشَّرْطِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَالثَّانِيَةُ بِوَاسِطَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا كَالْقِنْدِيلِ إذَا عُلِّقَ بِحَبْلٍ بِحَلَقٍ يَتَعَلَّقُ بِالْحَلَقَةِ الْأُولَى بِلَا وَاسِطَةٍ، وَبِالْحَلَقَةِ الثَّانِيَةِ بِوَاسِطَةِ الْأُولَى، وَكَعِقْدِ لُؤْلُؤٍ، وَإِنَّمَا يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَا تَعَلَّقَ وَهَبْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا يَوْمئِذٍ فَإِنَّمَا يَصِيرُ طَلَاقًا كَمَا تَعَلَّقَ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعَادَ الشَّرْطَ عِنْدَ ذِكْرِ كُلِّ تَطْلِيقَةٍ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ كُلِّ تَطْلِيقَةٍ هُنَاكَ بِالشَّرْطِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَإِنَّمَا التَّفَرُّقُ فِي أَزْمِنَةِ التَّعْلِيقِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَفَرُّقًا فِي الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا، بَلْ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ لَا، بَلْ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ بِإِقَامَةِ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ، وَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ لِبَقَاءِ الْمَحَلِّ بَعْدَ مَا تَعَلَّقَ الْأَوَّلُ بِالشَّرْطِ فَتَعَلَّقَ الثِّنْتَانِ بِالشَّرْطِ بِلَا وَاسِطَةٍ كَالْأُولَى،
وَهُنَا حَرْفُ الْوَاوِ لِلْعَطْفِ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ نَجَّزَ بِقَوْلِهِ لَا، بَلْ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ التَّكَلُّمُ بِالثِّنْتَيْنِ، لِعَدَمِ الْمَحَلِّ، وَأَمَّا إذَا أَخَّرَ الشَّرْطَ فَنَقُولُ: أَوَّلُ الْكَلَامِ يَتَوَقَّفُ عَلَى آخِرِهِ إذَا كَانَ فِي آخِرِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ أَوَّلِهِ، وَهُنَا فِي آخِرِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ أَوَّلِهِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَهُ إيقَاعٌ وَبِآخِرِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعْلِيقٌ، فَإِذَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ تَعَلَّقَ الْكُلُّ بِالشَّرْطِ جُمْلَةً، وَأَمَّا إذَا قَدَّمَ الشَّرْطَ فَلَيْسَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ مَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ أَوَّلِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ، فَإِذَا لَمْ يَتَوَقَّفْ، كَانَ هَذَا، وَالتَّنْجِيزُ سَوَاءً، وَنَظِيرُهُ مَا لَوْ تَزَوَّجَ أَمَتَيْنِ نِكَاحًا مَوْقُوفًا، فَقَالَ الْمَوْلَى: أَعْتَقَتْ هَذِهِ وَهَذِهِ، بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي آخِرِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ أَوَّلِهِ فَلَمْ يُجْعَلْ كَعِتْقِهِمَا مَعًا، وَلَوْ زَوَّجَ أُخْتَيْنِ مِنْ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فِي عُقْدَتَيْنِ، فَقَالَ الزَّوْجُ: أَجَزْت نِكَاحَ هَذِهِ وَهَذِهِ، بَطَلَ نِكَاحُهُمَا كَمَا لَوْ قَالَ: أَجَزْتهمَا؛ لِأَنَّ فِي آخِرِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ أَوَّلِهِ، وَإِنْ قَالَ: إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا طَلُقَتْ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ مَا عَطَفَ الثَّانِيَةَ، وَالثَّالِثَةَ عَلَى الْأُولَى فَتَتَعَلَّقُ الْأُولَى بِالشَّرْطِ وَتَلْغُو الثَّانِيَةُ، وَالثَّالِثَةُ.
وَلَوْ قَالَ: إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا طَلُقَتْ وَسَقَطَ عَنْهُ الظِّهَارُ، وَالْإِيلَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ تَعَلَّقَهُمَا بِالشَّرْطِ بِوَاسِطَةِ الطَّلَاقِ فَبِسَبْقِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ تَبِينُ لَا إلَى عِدَّةٍ فَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا مُولِيًا بَعْدَ مَا خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ مُطَلِّقٌ مُظَاهِرٌ مُولٍ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ تَعَلَّقَ بِالتَّزْوِيجِ عِنْدَهُمَا جُمْلَةً، وَلَوْ قَالَ: إذَا تَزَوَّجْتُك فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك، وَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَقَعَ هَذَا كُلُّهُ عَلَيْهَا، أَمَّا عِنْدَهُمَا لَا إشْكَالَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ الْإِيلَاءُ، وَتَكُونُ بَعْدَهُ مَحَلًّا لِلظِّهَارِ فَيَصِيرُ مُظَاهِرًا، ثُمَّ تَكُونُ بَعْدَهُمَا مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ أَيْضًا وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا: إنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ فَكَلَّمَتْهُ، فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَهُمَا تَقَعُ ثَلَاثًا نَصَّ عَلَى قَوْلِهِمَا رِوَايَةُ أَبِي سُلَيْمَانَ.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ إذَا كَلَّمْتُ فُلَانًا فَكَلَّمَ فُلَانًا؛ تَطْلُقُ ثَلَاثًا بِالِاتِّفَاقِ، وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرْنَا وَلَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ، ذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا، وَحَرْفُ الْفَاءِ لِلْعَطْفِ كَحَرْفِ الْوَاوِ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا عِنْدَهُمَا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ لَا لِعَطْفٍ مُطْلَقٍ فَإِنَّ كُلَّ حَرْفٍ مَوْضُوعٌ لِمَعْنًى خَاصٍّ، وَإِذَا كَانَ لِلتَّعْقِيبِ، فَفِي كَلَامِهِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَةَ تَعْقُبُ الْأُولَى فَتَبِينُ بِالْأُولَى لَا إلَى عِدَّةٍ بِخِلَافِ الْوَاوِ.
وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا، فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ فِي الْحَالِ، وَالثَّالِثَةُ تَعَلَّقَتْ بِالْكَلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا، طَلُقَتْ وَاحِدَةً فِي الْحَالِ وَيَلْغُو مَا سِوَاهَا؛ لِأَنَّهُ مَا عَطَفَ التَّطْلِيقَاتِ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَوْ قَالَ: إنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ، فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا تَعَلَّقَتْ الْأُولَى بِالْكَلَامِ، وَوَقَعَتْ الثَّانِيَةُ، وَالثَّالِثَةُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، تَعَلَّقَتْ الْأُولَى بِالْكَلَامِ وَتَقَعُ الثَّانِيَةُ فِي الْحَالِ، وَالثَّالِثَةُ لَغْوٌ.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا يَقَعُ فِي الْحَالِ اثْنَتَانِ، وَالثَّالِثَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْكَلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا، تَقَعُ وَاحِدَةً فِي الْحَالِ، وَيَلْغُو مَا سِوَى ذَلِكَ، وَإِذَا قَدَّمَ الشَّرْطَ، فَقَالَ: إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ، فَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا تَعَلَّقَتْ الْأُولَى بِالشَّرْطِ، وَوَقَعَتْ الثَّانِيَةُ، وَالثَّالِثَةُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا تَعَلَّقَتْ الْأُولَى بِالشَّرْطِ، وَوَقَعَتْ الثَّانِيَةُ فِي الْحَالِ، وَالثَّالِثَةُ لَغْوٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ قَدَّمَ الشَّرْطَ أَوْ أَخَّرَ تَتَعَلَّقُ الثَّلَاثُ بِالشَّرْطِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، تَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً فَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: كَلِمَةُ ثُمَّ لِلتَّعْقِيبِ مَعَ التَّرَاخِي، فَإِذَا أَدْخَلَهُ بَيْنَ الطَّلَاقَيْنِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ سَكْتَةٍ بَيْنَهُمَا، وَهُمَا يَقُولَانِ حَرْفُ ثُمَّ لِلْعَطْفِ، وَلَكِنْ بِقَيْدِ التَّرَاخِي، فَلِوُجُودِ مَعْنَى الْعَطْفِ يَتَعَلَّقُ الْكُلُّ بِالشَّرْطِ؛ وَلِمَعْنَى التَّرَاخِي يَقَعُ مُرَتَّبًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ.
وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَدَخَلَ بِهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي الْأَصْلِ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمَالِي: تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ، وَعَلَيْهِ لَهَا مَهْرَانِ وَنِصْفٌ، وَقَالَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: تَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَعَلَيْهِ لَهَا أَرْبَعَةُ مُهُورٍ وَنِصْفٌ، ذَكَرَهُ فِي الرُّقَيَّاتِ.
وَجْهُ تَخْرِيجِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا تَزَوَّجَهَا وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَزِمَهُ نِصْفُ مَهْرٍ فَلَمَّا دَخَلَ بِهَا لَزِمَهُ بِالدُّخُولِ، ثُمَّ لَمَّا تَزَوَّجَهَا، وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى بِكَلِمَةِ كُلَّمَا وَلَكِنَّهَا تَكُونُ رَجْعِيَّةً عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْهُ وَبِنَفْسِ التَّزَوُّجِ وَجَبَ مَهْرٌ آخَرُ، وَذَلِكَ مَهْرَانِ وَنِصْفٌ، ثُمَّ بِالدُّخُولِ يَصِيرُ مُرَاجِعًا، وَالتَّزَوُّجُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ لَغْوٌ فَهِيَ عِنْدَهُ بِتَطْلِيقَةٍ، وَعَلَيْهِ لَهَا مَهْرَانِ وَنِصْفٌ، وَتَخْرِيجُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ بِالتَّزَوُّجِ الْأَوَّلِ وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ، وَوَجَبَ نِصْفُ مَهْرٍ بِالطَّلَاقِ، وَمَهْرٌ بِالدُّخُولِ، وَكَذَلِكَ بِالتَّزَوُّجِ الثَّانِي، وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ، وَإِنْ حَصَلَ التَّزَوُّجُ فِي الْعِدَّةِ لَا يَخْرُجُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا قَبْلَ الدُّخُولِ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا وَعَلَيْهِ أَرْبَعَةُ مُهُورٍ وَنِصْفٌ، وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا، وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَطْلُقُ ثَلَاثًا بِكُلِّ تَزَوُّجٍ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ، وَعَلَيْهِ خَمْسَةُ مُهُورٍ وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّ بِالْعَقْدِ الثَّانِي، وَالثَّالِثِ فِي الْعِدَّةِ كَمَا وَقَعَ طَلَاقٌ بَائِنٌ وَجَبَ مَهْرٌ تَامٌّ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ بِكُلِّ دُخُولٍ مَهْرٌ تَامٌّ، فَإِذَا جَمَعْت ذَلِكَ كَانَ خَمْسَةَ مُهُورٍ وَنِصْفًا، وَإِذَا: قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا أَبَدًا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَطَلُقَتْ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثَانِيَةً لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلِّ تَقْتَضِي جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ لَا تَكْرَارَ الْأَفْعَالِ، فَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِتَجَدُّدِ الِاسْمِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ بِعَقْدَيْنِ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ كَلِمَةِ كُلَّمَا فَإِنَّهَا تَقْتَضِي تَكْرَارَ الْأَفْعَالِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى كَلِمَةِ كُلِّ الْجَمْعُ فِيمَا يَتَعَقَّبُهَا، وَاَلَّذِي يَتَعَقَّبُ الْكُلَّ الِاسْمُ دُونَ الْفِعْلِ يُقَالُ: كُلُّ رَجُلٍ وَكُلُّ امْرَأَةٍ، وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ ضَرَبَ، وَكُلٌّ دَخَلَ وَاَلَّذِي يَتَعَقَّبُهُ كَلِمَةُ كُلَّمَا الْفِعْلَ دُونَ الِاسْمِ يُقَالُ، كُلَّمَا ضَرَبَ، وَكُلَّمَا دَخَلَ، وَلَا يُقَالُ: كُلَّمَا زَيْدٌ، وَكُلَّمَا عَمْرٌو.
(قَالَ): وَإِذَا قَالَ: أَوَّلُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ، ثُمَّ وَاحِدَةً فِي عُقْدَةٍ لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَلَمْ تُوجَدْ صِفَةُ الْفَرْدِيَّةِ فِي الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُزَاحِمَةٌ لِلْأُخْرَى فِي الْعَقْدِ وَلَمْ تُوجَدْ صِفَةُ السَّبْقِ فِي الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَهَا امْرَأَتَانِ فَلَمْ تَثْبُتْ صِفَةُ الْأَوَّلِيَّةِ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَلَوْ كَانَ قَالَ مَعَ هَذَا: وَآخِرُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ لَمْ تَطْلُقْ الثَّالِثَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْآخِرَ اسْمٌ لِفَرْدٍ مُتَأَخِّرٌ لَا يَعْقُبُهُ غَيْرُهُ، وَنَحْنُ لَا نَدْرِي أَنَّ الثَّالِثَةَ هَلْ هِيَ آخِرٌ أَمْ لَا؛ لِجَوَازِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بَعْدَهَا غَيْرَهَا، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْرَى طَلُقَتْ الثَّالِثَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حِينِ تَزَوَّجَهَا حَتَّى لَا يَلْزَمَهَا الْعِدَّةُ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَلَا مِيرَاثَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا؛ فَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرٌ وَنِصْفُ نِصْفِ مَهْرٍ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَمَهْرٌ بِالدُّخُولِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا تَطْلُقُ الثَّالِثَةُ قُبَيْلَ الْمَوْتِ حَتَّى يَكُونَ لَهَا الْمِيرَاثُ إذَا كَانَ دَخَلَ بِهَا، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ سِوَى مَهْرِ النِّكَاحِ، وَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ، وَالطَّلَاقِ جَمِيعًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الثَّالِثَةَ إنَّمَا اسْتَحَقَّتْ صِفَةَ الْآخِرِيَّةِ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ وَعَجَزَ عَنْ التَّزَوُّجِ بِغَيْرِهَا فَتَطْلُقُ فِي الْحَالِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، ثُمَّ قَالَ لَهَا: إنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْك أُخْرَى فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّمَا تَطْلُقُ قُبَيْلَ مَوْتِهِ بِلَا فَصْلٍ، وَهُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ آخِرًا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ بَعْدَهَا غَيْرَهَا إلَّا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَمَّا أَخَذَتْ الْمِيرَاثَ بِحُكْمِ الْفِرَارِ لَزِمَهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ مَعَ عِدَّةِ الطَّلَاقِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَلْزَمُهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ، وَإِنْ وَرِثَتْهُ بِالْفِرَارِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَمَّا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْأُولَيَيْنِ فَقَدْ اتَّصَفَتْ بِصِفَةِ الْآخِرِيَّةِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ بِعَرْضِ أَنْ تَزُولَ عَنْهَا بِأَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا فَلَا يُحْكَمُ بِالطَّلَاقِ لِهَذَا، فَإِذَا لَمْ يَتَزَوَّج غَيْرَهَا حَتَّى مَاتَ تَقَرَّرَتْ صِفَةُ الْآخِرِيَّةِ فِيهَا مِنْ حِينِ تَزَوَّجَهَا فَتَطْلُقُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَرَأَتْ الدَّمَ لَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ: لِجَوَازِ أَنْ يَنْقَطِعَ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ، وَإِنْ اسْتَمَرَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ وَاقِعًا مَعَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ الدَّمِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: إنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْك؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ عَدَمَ التَّزَوُّجِ شَرْطًا مُفْصِحًا بِهِ لِلطَّلَاقِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الشَّرْطُ إلَّا عِنْدَ مَوْتِهِ، وَمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الشَّرْطُ لَا يَنْزِلُ الْجَزَاءُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ الْفَصْلَانِ؛ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ مَعَ التَّقَارُبِ فِي الْمَعْنَى كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ لَمْ أَشَأْ طَلَاقَك فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: لَا أَشَاءُ لَا تَطْلُقُ مَادَامَ حَيًّا وَلَوْ قَالَ: إنْ أَبَيْتُ طَلَاقَك فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَبَيْتُ طَلَاقَك تَطْلُقُ، وَهُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ لَفْظِ الشَّرْطِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ: آخِرُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً لَمْ يَتَزَوَّجْ قَبْلَهَا، وَلَا بَعْدَهَا حَتَّى مَاتَ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا فَلَا تَكُونُ آخِرَ امْرَأَةٍ فَإِنَّ صِفَةَ الْأَوَّلِيَّةِ، وَالْآخِرِيَّةِ لَا تَجْتَمِعُ فِي مَخْلُوقٍ وَاحِدٍ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّضَادِّ فِي الْمَعْنَى فِي الْمَخْلُوقِينَ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا لِمَعْنَى السَّبْقِ، وَالْآخَرَ لِمَعْنَى التَّأَخُّرِ فِي الزَّمَانِ، وَلَوْ قَالَ: أَوَّلُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ، وَإِحْدَاهُمَا مُعْتَدَّةٌ، وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى الَّتِي صَحَّ نِكَاحُهَا؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّزَوُّجِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ دُونَ الْفَاسِدِ، وَنِكَاحُ الْمُعْتَدَّةِ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا صَحَّ نِكَاحُ الْأُخْرَى فَهِيَ فَرْدٌ سَابِقٌ فِي نِكَاحِهِ فَكَانَتْ أَوَّلًا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا، ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بَعْدَهَا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ طَلُقَتْ هَذِهِ؛ لِأَنَّ الْأُولَى لَمَّا لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهَا لَمْ تَكُنْ دَاخِلَةً فِي كَلَامِهِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ فِي كَلَامِهِ الثَّانِيَةُ الَّتِي صَحَّ نِكَاحُهَا فَهِيَ أَوَّلُ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْك الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا لَمْ يَبَرَّ فِي يَمِينِهِ بِهَذَا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ التَّزَوُّجِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَنْصَرِفُ إلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ سَوَاءٌ ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ أَوْ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّزَوُّجِ الْحِلُّ، وَالْعِفَّةُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ.
(قَالَ): وَإِنْ قَالَ: أَوَّلُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً طَلُقَتْ حِينَ تَزَوَّجَهَا إنْ مَاتَ أَوْلَمَ يَمُتْ؛ لِأَنَّهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ اسْتَحَقَّتْ اسْمَ الْأَوَّلِيَّةِ بِصِفَةِ الْفَرْدِيَّةِ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا مَهْرٌ وَنِصْفُ مَهْرٍ، وَنِصْفُ مَهْرٍ بِالطَّلَاقِ الْوَاقِعِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَمَهْرٌ بِالدُّخُولِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ بِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ، وَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حَدٍّ أَوْ مَهْرٍ فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ لِشُبْهَةٍ وَجَبَ الْمَهْرُ، وَإِنْ قَالَ: إذَا تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ فَإِحْدَاهُمَا طَالِقٌ، وَالْخِيَارُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَهُوَ تَزَوُّجُ امْرَأَةٍ فَإِنَّ فِي الْمَرْأَتَيْنِ امْرَأَةً فَلِهَذَا طَلُقَتْ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تُزَاحِمُ الْأُخْرَى فِي الِاسْمِ الَّذِي أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بِهِ، وَلَا وَجْهَ لِلْإِيقَاعِ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ بِالتَّزَوُّجِ طَلَاقَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ لَا طَلَاقَ امْرَأَتَيْنِ فَلِهَذَا تَطْلُقُ إحْدَاهُمَا، وَالْخِيَارُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ نَوَى امْرَأَةً وَحْدَهَا لَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ التَّزَوُّجَ بِامْرَأَةٍ مُطْلَقًا، ثُمَّ قَيَّدَهَا بِنِيَّتِهِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ وَحْدَهَا، وَتَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ كَتَخْصِيصِ الْعَامِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ نِيَّةَ التَّخْصِيصِ فِي الْعَامِّ صَحِيحَةٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ صَحِيحَةٍ فِي الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ التَّقْيِيدُ.
وَإِنْ كَانَ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً وَحْدَهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ هُنَا بِنَصِّ كَلَامِهِ، وَوَاحِدَةٌ مِنْهُمَا لَمْ تَتَّصِفْ مِنْهُمَا بِتِلْكَ الصِّفَةِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا فِي الشَّرْطِ؛ لِانْضِمَامِ الْأُخْرَى إلَيْهَا فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْرَى بَعْدَهُمَا طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهَا مَوْصُوفَةٌ بِالصِّفَةِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا فِي الشَّرْطِ فَإِنَّهَا امْرَأَةٌ تَزَوَّجَهَا وَحْدَهَا، وَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: إذَا تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً سَوْدَاءَ فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ بَيْضَاوَيْنِ، ثُمَّ تَزَوَّجَ سَوْدَاءَ تَطْلُقُ الثَّالِثَةُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَوَّلُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ نَصٌّ فِي الشَّرْطِ عَلَى وَصْفَيْنِ: الْفَرْدِيَّةُ، وَالسَّبْقُ، وَقَدْ انْعَدَمَ فِي الثَّالِثَةِ صِفَةُ السَّبْقِ، وَهُنَا الشَّرْطُ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الْفَرْدِيَّةُ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي الثَّالِثَةِ؛ فَلِهَذَا تَطْلُقُ.
وَإِنْ قَالَ: يَوْمَ أَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ فَأَمَرَ رَجُلًا فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ فَهِيَ طَالِقٌ؛ لِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِعِبَارَةِ الْوَكِيلِ فَكَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِعِبَارَةِ نَفْسِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي النِّكَاحِ مُعَبِّرٌ حَتَّى لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْعُهْدَةِ، وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ، وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ، وَالشِّرَاءَ إذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُهُ فَأَمَرَ غَيْرَهُ حَتَّى بَاشَرَهُ لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ لِغَيْرِهِ فِي الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ حَتَّى تَتَعَلَّقَ بِهِ الْعُهْدَةُ، وَيَسْتَغْنِيَ عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَا يَصِيرُ الْمُوَكِّلُ عَاقِدًا بِمُبَاشَرَةِ الْوَكِيلِ، وَإِنْ عَنِيَ فِي النِّكَاحِ مَا وَلِيَ عَقْدَهُ بِنَفْسِهِ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ، وَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى نِيَّةِ التَّخْصِيصِ فِي الْعَامِّ فَإِنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ وَمُبَاشَرَةَ الْغَيْرِ لَهُ بِأَمْرِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَطَلَّقَهَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الْمُطَلِّقُ بِعِبَارَةِ الْوَكِيلِ فَإِنَّ الْوَكِيلَ بِالطَّلَاقِ مُعَبِّرٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ فَشَاءَتْ أَوْ قَالَ: اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُطَلِّقَ لَهَا فَكَذَلِكَ هُنَا، وَإِنْ قَالَ: نَوَيْت أَنْ أُطَلِّقَهَا بِلِسَانِي لَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ.
وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَطَالِقٌ، وَطَالِقٌ بَانَتْ بِالْأُولَى عِنْدَنَا، وَعِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ فَجَمْعُهُ بَيْنَ التَّطْلِيقَاتِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ كَجَمْعِهِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْوَاوُ لِلْعَطْفِ فَلَا يَقْتَضِي جَمْعًا، وَلَيْسَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ أَوَّلِهِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ أَوَّلِ الْكَلَامِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَهُوَ وَاقِعٌ أَوْقَعَ الثَّانِيَةَ، وَالثَّالِثَةَ، أَوْ لَمْ يُوقِعْ فَتَبِينُ بِالْأُولَى كَمَا تَكَلَّمَ بِهَا، ثُمَّ قَدْ تَكَلَّمَ بِالثَّانِيَةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ فِي عِدَّتِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ ذَكَرَ شَرْطًا، أَوْ اسْتِثْنَاءً فِي آخِرِ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ أَوَّلِهِ فَتَوَقَّفَ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ.
(قَالَ): وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَعْدَهَا أُخْرَى، أَوْ قَبْلَ أُخْرَى فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَهَذَا الْجِنْسُ مِنْ الْمَسَائِلِ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ مَتَى ذَكَرَ النَّعْتَ بَيْنَ اسْمَيْنِ فَإِنْ أَلْحَقَ بِهِ حَرْفَ الْكِنَايَةِ، وَهُوَ حَرْفُ الْهَاءِ كَانَ نَعْتًا لِلْمَذْكُورِ آخِرًا، وَإِنْ لَمْ يُلْحِقْ كَانَ نَعْتًا لِلْمَذْكُورِ أَوَّلًا تَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ قَبْلَ عَمْرٍو فَيَكُونُ قَبْلُ نَعْتًا لِمَجِيءِ زَيْدٍ، وَإِذَا قُلْتَ: قَبْلَهُ عَمْرٌو كَانَ نَعْتًا لِمَجِيءِ عَمْرٍو.
(وَالثَّانِي) أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِطَلَاقٍ سَابِقٍ يَكُونُ ذَلِكَ إيقَاعًا مِنْهُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ الِاسْتِنَادِ الْوُقُوعَ فِي الْحَالِ، وَهُوَ مَالِكٌ لِلْإِيقَاعِ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْإِسْنَادِ، إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَ أُخْرَى تَطْلُقُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ قَبْلَ نَعْتٌ لِلْأُولَى، وَمَعْنَاهُ قَبْلَ أُخْرَى تَقَعُ عَلَيْك فَتَبِينُ بِالْأُولَى، وَلَوْ قَالَ قَبْلَهَا أُخْرَى تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ قَبْلَ نَعْتٌ لِلْمَذْكُورِ آخِرًا فَكَأَنَّهُ قَالَ: قَبْلَهَا أُخْرَى وَقَعَتْ عَلَيْك، وَهَذَا مِنْهُ إسْنَادٌ لِلثَّانِيَةِ إلَى وَقْتٍ مَاضٍ فَيَكُونُ مُوقِعًا لَهَا فِي الْحَالِ مَعَ الْأُولَى.
وَلَوْ قَالَ: بَعْدَ أُخْرَى تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ نَعْتٌ لِلْأُولَى فَيَكُونُ مَعْنَاهُ بَعْدَ أُخْرَى وَقَعَتْ عَلَيْك، وَلَوْ قَالَ: بَعْدَهَا أُخْرَى تَطْلُقُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ بَعْدَهَا هُنَا نَعْتٌ لِلثَّانِيَةِ، وَمَعْنَاهُ بَعْدَهَا أُخْرَى تَقَعُ عَلَيْك فَتَبِينُ بِالْأُولَى.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ: مَعَ أُخْرَى، أَوْ مَعَهَا أُخْرَى تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلْقِرَانِ فَقَدْ قَرَنَ إحْدَى التَّطْلِيقَتَيْنِ بِالْأُخْرَى، وَأَوْقَعَهُمَا جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: اثْنَتَيْنِ مَعَ وَاحِدَةٍ، أَوْ مَعَهَا وَاحِدَةٌ، أَوْ قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا؛ لِمَا قُلْنَا.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَنِصْفًا قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَتْ طَالِقًا اثْنَتَيْنِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ نِصْفَ التَّطْلِيقَةِ كَمَالُهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا كُلُّهُ كَكَلَامٍ وَاحِدٍ مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ وَاحِدَةٍ وَنِصْفٍ بِعِبَارَةٍ أَوْجَزَ مِنْ هَذِهِ فَإِنَّ لِوَاحِدَةٍ وَنِصْفٍ عِبَارَتَيْنِ، إمَّا هَذِهِ، وَإِمَّا اثْنَتَانِ إلَّا نِصْفٌ، وَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ أَوْلَى الْعِبَارَتَيْنِ، وَإِذَا كَانَ كَلَامًا وَاحِدًا مَعْنَى لَا يُفْصَلُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَاحِدَةً، وَوَاحِدَةً فَكَأَنَّهُمَا عِبَارَتَانِ؛ لِأَنَّ لِلِاثْنَتَيْنِ عِبَارَةً أَوْجَزَ مِنْ هَذِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ اثْنَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إحْدَى وَعِشْرِينَ، عِنْدَنَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا الْعَدَدِ عِبَارَةٌ أَوْجَزُ مِنْ هَذِهِ فَكَانَ الْكَلَامُ وَاحِدًا مَعْنًى، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَطْلُقُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُمَا كَلَامَانِ أَحَدُهُمَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْآخَرِ فَتَبِينُ بِالْأُولَى.
وَإِنْ قَالَ: إحْدَى عَشْرَةَ تَطْلُقُ ثَلَاثًا بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ فَكَانَ الْكُلُّ وَاحِدًا، وَلَوْ قَالَ: إحْدَى وَعَشْرَةً، عِنْدَنَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ حَرْفَ الْعَطْفِ كَانَ كَلَامَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: وَاحِدَةً وَمِائَةً، عِنْدَنَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاحِدَةً.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هُنَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ الْمَعْرُوفَةَ لِهَذَا الْعَدَدِ مِائَةٌ وَوَاحِدَةٌ، فَإِذَا غَيَّرَ ذَلِكَ تَفَرَّقَ كَلَامُهُ فَتَبِينُ بِالْأُولَى.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ، أَوْ قَالَ: الْبَائِنُ يَنْوِي ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ أَلْبَتَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَطْعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَطْعَ نَوْعَانِ، فَهُوَ بِنِيَّةِ الثَّلَاثِ يَنْوِي أَحَدَ نَوْعَيْ الْقَطْعِ فَيَعْمَلُ بِنِيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ حَرَامًا يَنْوِي ثَلَاثًا، فَهُوَ كَمَا نَوَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى أَحَدَ نَوْعَيْ الْحُرْمَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: طَالِقٌ الْحَرَامَ، فَهَذَا وَقَوْلُهُ حَرَامٌ سَوَاءٌ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَ بَعْدَ قَوْلِهِ طَالِقٌ تَفْسِيرٌ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، فَهَذَا وَقَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا سَوَاءٌ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ أَوْ طَلَاقًا، فَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَإِنْ عَنَى بِطَالِقٍ تَطْلِيقَةً، وَبِالطَّلَاقِ أُخْرَى فَهِيَ ثِنْتَانِ رَجْعِيَّتَانِ إنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ لَفْظِ صَرِيحِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، فَإِنَّهُ لَمَّا نَوَى بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَطْلِيقَةً كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ فَتَبِينُ بِالْأُولَى.
فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ كُلَّهُ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ، أَوْ لَمْ تَكُنْ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِإِيقَاعِ كُلِّ الطَّلَاقِ، وَهُوَ ثَلَاثٌ، وَمَعَ التَّصْرِيحِ لَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَخْبَثَ الطَّلَاقِ، أَوْ أَشَدَّ الطَّلَاقِ، أَوْ أَعْظَمَ الطَّلَاقِ، أَوْ أَكْبَرَ الطَّلَاقِ فَهَذَا كُلُّهُ بَابٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى الْعِظَمِ، وَالْكِبَرِ، وَالشِّدَّةِ يَظْهَرُ فِي الْحُكْمِ فَهَذَا، وَقَوْلُهُ طَالِقٌ بَائِنٌ سَوَاءٌ.
وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَكْبَرَ الطَّلَاقِ فَهِيَ ثَلَاثٌ لَا يَدِينُ فِيهَا إذَا قَالَ: نَوَيْتُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ، وَالْقِلَّةَ فِي الْعَدَدِ، فَقَدْ صَرَّحَ بِإِيقَاعِ أَكْثَرِ مَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا مِنْ الطَّلَاقِ، وَمَعَ التَّصْرِيحِ لَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ وَلَوْ قَالَ: أَسْوَأَ الطَّلَاقِ، أَوْ شَرَّهُ، أَوْ أَفْحَشَهُ، فَهُوَ وَقَوْلُهُ أَخْبَثَ الطَّلَاقِ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِنْ قَالَ: أَكْمَلَ الطَّلَاقِ، أَوْ أَتَمَّ الطَّلَاقِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْعِظَمِ، وَالشِّدَّةِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طُولَ كَذَا، أَوْ عَرْضَ كَذَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّ الطُّولَ، وَالْعَرْضَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى الشِّدَّةِ فَإِنَّ الْأَمْرَ إذَا اشْتَدَّ عَلَى إنْسَانٍ يَقُولُ: كَانَ لِهَذَا الْأَمْرِ طُولٌ وَعَرْضٌ فَتَكُونُ وَاحِدَةً بَائِنَةً، وَلَا تَكُونُ ثَلَاثًا، وَإِنْ نَوَاهَا؛ لِأَنَّ الطُّولَ، وَالْعَرْضَ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً طُولُهَا وَعَرْضُهَا كَذَا، وَهَذَا لَا تَسَعُ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ خَيْرَ الطَّلَاقِ، أَوْ أَعْدَلَ الطَّلَاقِ، أَوْ أَحْسَنَ الطَّلَاقِ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَعْدَلَ، وَالْأَحْسَنَ مَا يُوَافِقُ السُّنَّةَ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِالْخَيْرِيَّةِ مَا يُوَافِقُ السُّنَّةَ حَتَّى يَقَعَ بِهَذَا تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ فِي وَقْتِ السُّنَّةِ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ، أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ رَكِبْتِ، وَهِيَ رَاكِبَةٌ فَمَكَثَتْ كَذَلِكَ سَاعَةً طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ الرُّكُوبَ مُسْتَدَامٌ حَتَّى تُضْرَبَ لَهُ الْمُدَّةُ يُقَالُ: رَكِبَتْ يَوْمًا، وَالِاسْتِدَامَةُ عَلَى مَا يُسْتَدَامُ إنْشَاءٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} أَيْ لَا تَمْكُثْ قَاعِدًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ قَعَدْتِ، وَهِيَ قَاعِدَةٌ، أَوْ إنْ قُمْت، وَهِيَ قَائِمَةٌ، أَوْ إنْ مَشَيْتِ، وَهِيَ مَاشِيَةٌ، أَوْ إنْ اتَّكَأْتِ، وَهِيَ مُتَّكِئَةٌ فَمَكَثَتْ كَذَلِكَ سَاعَةً يَحْنَثُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، وَهِيَ فِي الدَّارِ فَمَكَثَتْ كَذَلِكَ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَخْرُجَ وَتَدْخُلَ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ لَيْسَ بِمُسْتَدَامٍ فَإِنَّهُ انْفِصَالٌ مِنْ الْخَارِجِ إلَى الدَّاخِلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تُضْرَبُ لَهُ الْمُدَّةُ، فَلَا يُقَالُ: دَخَلَ يَوْمًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ: دَخَلَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: دَخَلَ وَسَكَنَ يَوْمًا، وَالْخُرُوجُ نَظِيرُ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهُ انْفِصَالٌ مِنْ الدَّاخِلِ إلَى الْخَارِجِ فَلَا يَكُونُ لِاسْتِدَامَتِهِ حُكْمُ إنْشَائِهِ.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا بَيْنَ تَطْلِيقَةٍ إلَى ثَلَاثٍ، أَوْ مِنْ تَطْلِيقَةٍ إلَى ثَلَاثٍ فَفِي الْقِيَاسِ تَطْلُقُ وَاحِدَةً، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأُولَى، وَالثَّالِثَةَ غَايَةً، وَالْغَايَةُ حَدٌّ فَلَا تَدْخُلُ فِي الْمَحْدُودِ كَقَوْلِهِ: بِعْتُ مِنْكَ مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ، فَيَكُونُ الْوَاقِعُ مَا بَيْنَ الْغَايَتَيْنِ، وَهِيَ الْوَاحِدَةُ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَكُونُ فِي ذَوِي الْمِسَاحَاتِ، فَأَمَّا فِي عُرْفِ اللِّسَانِ إنَّمَا يُرَادُ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ دُخُولُ الْكُلِّ، فَإِنَّ الرَّجُلُ يَقُولُ: خُذْ مِنْ مَالِي مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشْرَةٍ، فَيَكُونُ لَهُ أَخْذُ الْعَشَرَةِ، وَيَقُولُ: كُلْ مِنْ الْمِلْحِ إلَى الْحُلْوِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ تَعْمِيمَ الْإِذْنِ، وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى عُرْفِ أَهْلِ اللِّسَانِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الْقِيَاسُ مَا قَالَهُ زُفَرُ أَنَّ الْحَدَّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ، وَلَكِنْ فِي إدْخَالِ الْأُولَى ضَرُورَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّانِيَةَ، وَلَا ثَانِيَةَ قَبْلَ الْأُولَى، وَلَا بُدَّ لِلْكَلَامِ مِنْ ابْتِدَاءٍ.
فَإِذَا لَمْ يُوقِعْ الْأُولَى؛ تَصِيرُ الثَّانِيَةُ ابْتِدَاءً فَلَا يُمْكِنُ إيقَاعُهَا أَيْضًا فَلِأَجْلِ الضَّرُورَةِ؛ أَدْخَلَتْ الْغَايَةُ الْأُولَى، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْغَايَةِ الثَّانِيَةِ فَأَخَذْتُ فِيهَا بِالْقِيَاسِ وَقُلْتُ: تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْغَايَةَ الَّتِي يَنْتَهِي الْكَلَامُ إلَيْهَا قَدْ لَا تَدْخُلُ كَاللَّيْلِ فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ}، وَقَدْ تَدْخُلُ كَالْمَرَافِقِ، وَالْكَعْبَيْنِ فِي الْوُضُوءِ، وَالطَّلَاقُ بِالشَّكِّ لَا يَقَعُ، فَإِنْ: قَالَ أَرَدْت وَاحِدَةً لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ، وَهُوَ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِاحْتِمَالِ الْكَلَامِ مَا نَوَى، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى أُخْرَى فَفِي الْقِيَاسِ قَوْلُ زُفَرَ: لَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: تَطْلُقُ وَاحِدَةً، وَعِنْدَهُمَا تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ.
وَإِنْ قَالَ: مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى وَاحِدَةٍ قِيلَ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَقِيلَ: تَقَعُ وَاحِدَةٌ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ غَايَةَ نَفْسِهِ فَكَانَ قَوْلُهُ: إلَى وَاحِدَةٍ لَغْوًا، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، أَوْ لَا شَيْءَ فَهِيَ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ: لَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، أَوْ لَا شَيْءَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ.
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ حَرْفَ أَوْ؛ لِإِثْبَاتِ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ فِيمَا يَتَخَلَّلُهُمَا، وَإِنَّمَا يَتَخَلَّلُ هُنَا قَوْلُهُ: وَاحِدَةً، أَوْ لَا شَيْءَ، وَقَوْلُهُ ثَلَاثًا، أَوْ لَا شَيْءَ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ هَذَا اللَّفْظِ، وَيَبْقَى قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ فَيَقَعُ بِهِ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ.
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ حَرْفَ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ إثْبَاتُ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ فَقَدْ خَيَّرَ نَفْسَهُ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ، أَوْ لَا يَقَعَ عَلَيْهَا شَيْءٌ، وَأَحَدُهُمَا مَوْجُودٌ فَلَا يَثْبُتُ بِهَذَا الْكَلَامِ شَيْءٌ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَأَجْنَبِيَّةٍ، وَقَالَ: هَذِهِ طَالِقٌ، أَوْ هَذِهِ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا اقْتَرَنَ بِهِ ذِكْرُ الْعَدَدِ كَانَ الْعَامِلُ هُوَ الْعَدَدَ لَا قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَقَدْ خَرَجَ ذِكْرَ الْعَدَدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً بِحَرْفِ أَوْ فَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ.
وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ.
أَوْ غَيْرُ طَالِقٍ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ لَا، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ لَا شَيْءَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَدْخَلَ حَرْفَ الْوَاوِ بَيْنَ طَلَاقٍ وَغَيْرِ طَلَاقٍ فَتَخْرُجُ بِهِ كَلِمَةُ الْإِيقَاعِ مِنْ أَنْ تَكُونَ عَزِيمَةً فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي اثْنَتَيْنِ فَهُوَ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ حَرْفَ فِي قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْوَاوِ؛ لِأَنَّ حُرُوفَ الصِّلَاتِ يَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ.
وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً مَعَ اثْنَتَيْنِ يَقَعُ ثَلَاثٌ أَيْضًا سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّ حَرْفَ فِي يُذْكَرُ بِمَعْنَى مَعَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أَيْ مَعَ عِبَادِي، وَيُقَالُ: دَخَلَ الْأَمِيرُ الْبَلْدَةَ فِي جُنْدِهِ، أَيْ مَعَ جُنْدِهِ، وَإِنْ نَوَى حِسَابَ الضَّرْبِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اثْنَتَانِ؛ لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحِسَابِ أَنَّ وَاحِدًا إذَا ضُرِبَ فِي اثْنَيْنِ يَكُونُ اثْنَيْنِ فَيُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَيْهِمَا إذَا نَوَى، وَلَكِنَّا نَقُولُ الضَّرْبُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَمْسُوحَاتِ لَا فِي الطَّلَاقِ، وَتَأْثِيرُ الضَّرْبِ فِي تَكْثِيرِ الْأَجْزَاءِ لَا فِي زِيَادَةِ الْمَالِ، وَالتَّطْلِيقَةُ الْوَاحِدَةُ، وَإِنْ كَثُرَتْ أَجْزَاؤُهَا لَا تَصِيرُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَسُدُسَهَا وَثُلُثَهَا لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: اثْنَتَيْنِ فِي اثْنَتَيْنِ وَنَوَى الضَّرْبَ عِنْدَنَا تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ اثْنَيْنِ فِي اثْنَيْنِ يَكُونُ أَرْبَعَةً، وَلَكِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ، وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ الْإِقْرَارِ، إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَنَوَى حِسَابَ الضَّرْبِ فَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ عِنْدنَا،
وَمِائَةٌ عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ نَوَى عَشَرَةً وَعَشَرَةً فَعَلَيْهِ عِشْرُونَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ فِي دِينَارٍ، أَوْ كُرُّ حِنْطَةٍ فِي كُرِّ شَعِيرٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا الْمَذْكُورُ أَوَّلًا عِنْدَنَا إلَّا أَنْ يَقُولَ نَوَيْتُ الْوَاوَ، أَوْ حَرْفَ مَعَ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ، وَيُحَلِّفُهُ الْقَاضِي بِاَللَّهِ مَا أَرَدْتَ الْإِقْرَارَ بِذَلِكَ كُلِّهِ يَعْنِي إذَا كَانَ الْخَصْمُ مُدَّعِيًا بِجَمِيعِ ذَلِكَ.
(قَالَ): وَإِنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَفُلَانَةُ، أَوْ فُلَانَةُ فَالْأُولَى طَالِقٌ، وَالْخِيَارُ إلَيْهِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ يُوقِعُ عَلَى أَيَّتِهِمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ حَرْفَ التَّخْيِيرِ إنَّمَا ذُكِرَ بَيْنَ الْأُخْرَيَيْنِ فَكَانَ كَلَامُهُ عَزِيمَةً فِي الْأُولَى فَيَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا وَيُخَيَّرُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: هَذِهِ طَالِقٌ، وَإِحْدَى هَاتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الْعِتْقِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا وَفُلَانًا أَوْ فُلَانًا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ، وَاسْتَوْضَحَ فِي الْكِتَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَقَدْ اسْتَقْرَضَتْ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ كَانَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا عَلَيْهَا، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْأَلْفِ يُقِرُّ بِهَا.
لِأَحَدِهِمَا، وَيَحْلِفُ لِلْآخَرِ مَا اسْتَقْرَضَ مِنْهُ شَيْئًا، وَهَذَا غَيْرُ مُشْكِلٍ؛ لِأَنَّ حَرْفَ التَّخْيِيرِ إنَّمَا ذُكِرَ فِي الْإِقْرَارِ لَا فِي الْإِيقَاعِ فَيَبْقَى مُوقِعًا لِلطَّلَاقِ عَلَى امْرَأَتِهِ عَزْمًا.
وَلَوْ قَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ ثَلَاثًا أَوْ فُلَانَةُ وَفُلَانَةُ طَلُقَتْ الثَّالِثَةُ، وَالْخِيَارُ إلَيْهِ فِي الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَدْخَلَ حَرْفَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأُولَيَيْنِ، وَابْنُ سِمَاعَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَرْوِي عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْإِيقَاعِ عَلَى الْأُولَى، وَالْأُخْرَيَيْنِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: هَذَا طَالِقٌ أَوْ هَاتَانِ وَجَعَلَ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ كَمَسْأَلَةِ الْيَمِينِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَدْ اسْتَقْصَيْنَا شَرْحَهُ فِي الْجَامِعِ.
وَإِنْ قَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَفُلَانَةُ مَعَهَا يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ الثَّانِيَةَ عَلَى الْأُولَى، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا خَبَرًا فَيَكُونُ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ خَبَرًا لِلثَّانِي؛ كَمَا هُوَ مُوجَبُ الْعَطْفِ؛ وَلِأَنَّهُ ضَمَّ الثَّانِيَةَ إلَى الْأُولَى بِقَوْلِهِ: مَعَهَا، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الضَّمُّ إذَا وَقَعَ عَلَيْهَا مِثْلُ مَا وَقَعَ عَلَى الْأُولَى، فَإِنْ قَالَ: عَنَيْت أَنَّ فُلَانَةَ مَعَهَا شَاهِدَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ، وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ أَضْمَرَ لِلثَّانِيَةِ خَبَرًا آخَرَ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ قَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: أَشْرَكْتُ فُلَانَةَ مَعَهَا فِي الطَّلَاقِ وَقَعَ عَلَى الْأُخْرَى ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الِاشْتِرَاكِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مِيرَاثِ أَوْلَادِ الْأُمِّ: «فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ» فَيَسْتَوِي فِيهِ الذُّكُورُ، وَالْإِنَاثُ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ أَشْرَكَهَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِمَّا وَقَعَتْ عَلَى الْأُولَى وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ: بَيْنَكُمَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ حَيْثُ تَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَسْبِقْ وُقُوعُ شَيْءٍ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَتَنْقَسِمُ الثَّلَاثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ قِسْمَةً وَاحِدَةً، وَهُنَا قَدْ وَقَعَ الثَّلَاثُ عَلَى الْأُولَى فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْفَعَ شَيْئًا مِمَّا أَوْقَعَ عَلَيْهَا بِإِشْرَاكِ الثَّانِيَةِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُسَوِّيَ الثَّانِيَةَ بِهَا بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ: أَشْرَكْتُكُمَا فِي ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ لَمْ يَقَعْ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ إلَّا اثْنَتَانِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَوْقَعَ الثَّلَاثَ عَلَى الْأُولَى فَكَلَامُهُ فِي حَقِّ الثَّانِيَةِ إشْرَاكٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَيْنَكُمَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ، وَهُوَ يَنْوِي أَنَّ كُلَّ تَطْلِيقَةٍ بَيْنَهُمَا فَلِهَذَا تَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَلَاثًا.
وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ: أَنْتُمَا طَالِقَانِ ثَلَاثًا يَنْوِي أَنَّ الثَّلَاثَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِكَوْنِ الْمَنْوِيِّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ، وَتَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ: أَنْتُنَّ طَوَالِقُ ثَلَاثًا يَنْوِي أَنَّ الثَّلَاثَ بَيْنَهُنَّ كَانَ مَدِينًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَتَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةً.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: أَكَلْنَ أَرْبَعَةَ أَرْغِفَةٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ أَكَلَتْ رَغِيفًا وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فِي الْوَصْفِ فَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ وَتَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا، وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ نُفَاةِ الْقِيَاسِ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ نِصْفَ التَّطْلِيقَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَإِيقَاعُ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ مِنْ الزَّوْجِ بَاطِلٌ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَا لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي فَذِكْرُ بَعْضِهِ كَذِكْرِ كُلِّهِ، فَكَانَ هُوَ مُوقِعًا تَطْلِيقَةً كَامِلَةً بِهَذَا اللَّفْظِ، وَإِيقَاعُ التَّطْلِيقَةِ مَشْرُوعٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ جُزْءٍ سَمَّاهُ مِنْ نِصْفٍ، أَوْ ثُلُثٍ، أَوْ رُبُعٍ فَهُوَ كَذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ تَطْلِيقَةٍ فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَوْقَعَ أَجْزَاءَ تَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ.
(قَالَ): وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ مِنْ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ، وَثُلُثَ تَطْلِيقَةٍ، وَرُبُعَ تَطْلِيقَةٍ، وَقَدْ دَخَلَ بِهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ مِنْ كُلِّ تَطْلِيقَةٍ مِنْ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ جُزْءٌ فَإِنَّهُ نَكَّرَ التَّطْلِيقَةَ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ، وَالْمُنَكَّرُ إذَا أُعِيدَ مُنَكَّرًا فَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}: لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنَ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثَهَا وَسُدُسَهَا لَمْ تَطْلُقْ إلَّا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَجْزَاءَ الْمَذْكُورَةَ إلَى تَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ بِحَرْفِ الْكِنَايَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثَهَا وَرُبُعَهَا، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ هُنَا: تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّكَ إذَا جَمَعْت هَذِهِ الْأَجْزَاءَ الْمَذْكُورَةَ تَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ إلَّا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَجْزَاءَ الْمَذْكُورَةَ إلَى تَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ بِحَرْفِ الْكِنَايَةِ فَلَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ تَصْنَعِي كَذَا وَكَذَا لِعَمَلٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَصْنَعُهُ أَبَدًا نَحْوُ: أَنْ يَقُولَ: إنْ لَمْ تَمَسِّي السَّمَاءَ بِيَدِكِ، أَوْ إنْ لَمْ تُحَوِّلِي هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا فَهِيَ طَالِقً سَاعَةَ تَكَلَّمَ بِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: إنْ لَمْ تَدْخُلِي الدَّارَ فَإِنَّ هُنَاكَ لَا تَطْلُقُ حَتَّى تَمُوتَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فَوَاتُ الدُّخُولِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ مَوْتِهَا، فَإِنَّ الدُّخُولَ مِنْهَا يَتَأَتَّى مَا دَامَتْ حَيَّةً، فَأَمَّا هُنَا الشَّرْطُ عَدَمُ مَسِّ السَّمَاءِ مِنْهَا، أَوْ تَحْوِيلُ الْحَجَرِ ذَهَبًا، وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْحَالِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الِانْتِظَارِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ عَجْزٌ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا قَبْلَهُ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الدُّخُولِ عَلَى مَا بَيَّنَّا لَوْ وَقَّتَ وَقْتًا، فَقَالَ أَنْتَ طَالِقٌ إنْ لَمْ تُمْسِي السَّمَاءَ الْيَوْمَ لَمْ تَطْلُقْ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ عِنْدَنَا، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَطْلُقُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ فَوْتَ الشَّرْطِ مُتَحَقِّقٌ فِي الْحَالِ؛ وَلِأَنَّ الْوَقْتَ فِي الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتِ كَالْعُمْرِ فِي الْمُطْلَقِ فَكَمَا لَا يُنْتَظَرُ هُنَاكَ مَوْتُهَا؛ فَكَذَلِكَ هُنَا لَا يُنْتَظَرُ مُضِيُّ الْمُدَّةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: عِنْدَ ذِكْرِ الْوَقْتِ الشَّرْطُ عَدَمُ الْفِعْلِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ النَّهَارِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلِأَنَّهُ بِذِكْرِ الْوَقْتِ قَصَدَ التَّرْفِيهَ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا ذَهَبَ هَذَا الْيَوْمُ، فَمَا لَمْ يَذْهَبْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ.
(قَالَ): رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا مُطَلَّقَةُ فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ حِينَ نَادَاهَا بِهِ فَكَانَ هَذَا وَقَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ سَوَاءً أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: يَا زَانِيَةُ كَانَ قَاذِفًا لَهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَنْتِ زَانِيَةٌ، فَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ أَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ مِنْ زَوْجٍ لَهَا قَبْلِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَى كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى الْمُحَالَ، وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَهُ فَهُوَ مَدِينٌ فِي الْقَضَاءِ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَإِنَّ النِّدَاءَ فِي الْحَقِيقَةِ بِوَصْفٍ مَوْجُودٍ، وَذَلِكَ مِنْ طَلَاقِ زَوْجٍ كَانَ قَبْلَهُ وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ الْوَصْفُ، وَهُوَ غَيْرُ الْإِيقَاعِ.
(قَالَ): وَإِنْ قَالَ لَهَا: طَلَّقْتُك أَمْسِ، وَهُوَ كَاذِبٌ كَانَتْ طَالِقًا فِي الْقَضَاءِ، فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ، وَالْكَذِبِ إلَّا أَنَّ دِينَهُ وَعَقْلَهُ يَحْمِلُهُ عَلَى الصِّدْقِ وَيَمْنَعُهُ عَنْ الْكَذِبِ فَحَمَلْنَا كَلَامَهُ فِي الظَّاهِرِ عَلَى الصِّدْقِ، فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمُخْبَرُ عَنْهُ إذَا كَانَ كَذِبًا لَا يَصِيرُ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ صِدْقًا؛ فَلِهَذَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ لَهَا: يَا بَائِنُ، أَوْ يَا حَرَامُ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يُشْبِهُ الْفُرْقَةَ، وَهُوَ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُسَمِّيَهَا تَسْمِيَةً، وَلَا يَنْوِي الطَّلَاقَ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا إذَا نَوَى؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُبْهَمٌ مُحْتَمِلٌ، فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: يَا بَائِنُ، فَإِذَا قَالَ: لَمْ أَنْوِ الطَّلَاقَ كَانَ مُدَيَّنًا فِي الْقَضَاءِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَإِنْ قَالَ: يَا مُطَلَّقَةُ يُرِيدُ أَنْ يُسَمِّيَهَا بِذَلِكَ، وَلَا يُرِيدُ الطَّلَاقَ وَسِعَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ صَرِيحٌ فَوُقُوعُ الطَّلَاقِ بِهِ يَكُونُ بِعَيْنِهِ لَا بِنِيَّتِهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ إلَّا أَنَّ مَا نَوَاهُ مُحْتَمَلٌ فَيُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: عَنَيْتُ الطَّلَاقَ عَنْ الْوَثَاقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: يَا حُرُّ يُرِيدُ أَنْ يُسَمِّيَهُ بِذَلِكَ فَهُوَ مُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ يُعْتَقُ بِهِ فِي الْقَضَاءِ.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَذِهِ أُخْتِي فَهُوَ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُحْتَمِلٌ لِلْأُخُوَّةِ فِي الدِّينِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ}، وَفِي الْقَبِيلَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} وَبِالْمُحْتَمِلِ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لِمَمْلُوكِهِ: هَذَا أَخِي كَانَ صَادِقًا وَلَمْ يُعْتَقْ، وَإِنْ قَالَ هَذِهِ أُمِّي أَوْ ابْنَتِي مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، أَوْ قَالَ هِيَ عَمَّتِي أَوْ خَالَتِي مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ فَإِنَّهُ يُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ قَالَ: كَذَبْتُ أَوْ تَوَهَّمْتُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا إذَا قَالَ لِمَمْلُوكِهِ وَلِزَوْجَتِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: يَا أُمَّاهُ، أَوْ يَا بِنْتَاهُ، أَوْ يَا عَمَّتَاهُ، أَوْ يَا خَالَتَاهُ أَوْ يَا أُخْتَاهُ، أَوْ يَا جَدَّتَاهُ كَانَ هَذَا بَاطِلًا، وَلَا تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ؛ لِأَنَّ فِي مَوْضِعِ النِّدَاءِ الْمُرَادَ إحْضَارُهَا لَا تَحْقِيقُ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِيهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يُنَادِيهَا بِمَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا فِي مَوْضِعِ الْإِهَانَةِ كَالْكَلْبِ، وَالْحِمَارِ، وَفِي مَوْضِعِ الْإِكْرَامِ كَحُورِ الْعِينِ وَنَحْوِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُهُ التَّحْقِيقَ وَبِدُونِ قَصْدِ التَّحْقِيقِ لَا عَمَلَ لِهَذَا الْكَلَامِ فِي قَطْعِ الزَّوْجِيَّةِ فَلِهَذَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ.
(قَالَ): قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ: قَدْ وَهَبْتُ لَكِ طَلَاقَكِ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهِيَ طَالِقٌ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ هَذَا طَلَّقْتُك بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِنَّ هِبَةَ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِهِ جَعْلُهُ لَهُ مَجَّانًا.
وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ طَلَاقَكَ بِكَذَا، فَقَالَتْ: قَبِلْتُ طَلُقَتْ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: وَهَبْت لَك طَلَاقَك تَطْلُقُ، وَإِنْ لَمْ تَقْبَلْ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ قَبُولِهَا لِأَجْلِ الْبَدَلِ، وَإِنْ كَانَ يَنْوِي بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ فِي يَدِهَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَإِنَّ الْهِبَةَ تُزِيلُ مِلْكَ الْوَاهِبِ عَنْ الْمَوْهُوبِ، وَبِجَعْلِ الطَّلَاقِ فِي يَدِهَا لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ الطَّلَاقِ، وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِهِ تَمْلِيكٌ لِذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْهُ فِي الظَّاهِرِ؛ فَيَكُونُ هَذَا تَمْلِيكًا لِلْأَمْرِ مِنْهَا، فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ طَلُقَتْ وَإِلَّا فَهِيَ امْرَأَتُهُ.
(قَالَ): وَإِذَا قَالَ لِآخَرَ: أَخْبِرْ امْرَأَتِي بِطَلَاقِهَا فَهِيَ طَالِقٌ سَوَاءٌ أَخْبَرَهَا بِهِ أَوْ لَمْ يُخْبِرْهَا؛ لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ لِلْإِلْصَاقِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَخْبِرْهَا بِمَا أَوْقَعْتُ عَلَيْهَا مِنْ الطَّلَاقِ مَوْصُولًا بِالْإِيقَاعِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي إيقَاعًا سَابِقًا لَا مَحَالَةَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: احْمِلْ إلَيْهَا طَلَاقَهَا، أَوْ بَشِّرْهَا بِطَلَاقِهَا فَهِيَ طَالِقٌ بَلَغَهَا، أَوْ لَمْ يَبْلُغْهَا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ بَشِّرْهَا بِمَا أَوْقَعْتُ عَلَيْهَا، أَوْ احْمِلْ إلَيْهَا مَا أَوْقَعْتُ عَلَيْهَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَخْبِرْهَا أَنَّهَا طَالِقٌ أَوْ قُلْ لَهَا: إنَّهَا طَالِقٌ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ، وَالْكَذِبَ فَالْأَصْلُ فِيهِ الصِّدْقُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ إيقَاعِهِ الطَّلَاقَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: وَهَبْتُ لَك عِتْقَك، أَوْ تَصَدَّقْتُ عَلَيْك بِعِتْقِك، أَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَخْبِرْهُ أَنَّهُ حُرٌّ، أَوْ بَشِّرْهُ بِأَنَّهُ حُرٌّ أَوْ قُلْ لَهُ أَنَّهُ حُرٌّ كَانَ حُرًّا لِمَا بَيَّنَّا.
(قَالَ): وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَتْ: لَا تُطَلِّقْنِي هَبْ لِي طَلَاقِي، فَقَالَ: قَدْ وَهَبْتُ لَكِ طَلَاقَك يُرِيدُ بِذَلِكَ لَا أُطَلِّقُك فَهِيَ امْرَأَتُهُ فِي الْقَضَاءِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ جَوَابٌ لِسُؤَالِهَا، وَهِيَ إنَّمَا سَأَلَتْهُ الْإِعْرَاضَ عَنْ الْإِيقَاعِ، وَقَدْ أَظْهَرَ بِكَلَامِهِ أَنَّهُ أَجَابَهَا إلَى مَا سَأَلَتْهُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إيقَاعًا مِنْهُ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: قَدْ أَعْرَضْتُ عَنْ طَلَاقِك، أَوْ صَفَحْت عَنْ طَلَاقِك يُرِيدُ بِذَلِكَ الطَّلَاقَ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ نَوَى ضِدَّ كَلَامِهِ فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ الشَّيْءِ بِتَرْكِ الْخَوْضِ فِيهِ، وَهُوَ ضِدُّ الْإِيقَاعِ، وَلَوْ قَالَ: قَدْ تَرَكْتُ طَلَاقَك، أَوْ قَدْ خَلَّيْت طَلَاقَك، أَوْ قَدْ خَلَّيْت سَبِيلَ طَلَاقِك، وَهُوَ يُرِيدُ بِذَلِكَ الطَّلَاقَ فَهِيَ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُحْتَمِلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ تَرْكَهَا بِطَرِيقِ الْإِعْرَاضِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَرَكْتُهَا بِأَنْ أَخْرَجْتُهَا مِنْ يَدِي بِالْإِيقَاعِ فَيَنْوِي فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ بِمَنْزِلَةِ الْكِنَايَاتِ.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ، وَقَدْ دَخَلَ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّ يَوْمٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَمْ تَطْلُقْ إلَّا وَاحِدَةً عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ تَطْلُقُ ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إيقَاعٌ، وَكَلِمَةَ كُلٍّ تَجْمَعُ الْأَسْمَاءَ فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ مُوقِعًا لِلطَّلَاقِ عَلَيْهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَذَلِكَ بِتَجَدُّدِ الْوُقُوعِ حَتَّى تَطْلُقَ ثَلَاثًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ طَلُقَتْ ثَلَاثًا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَاحِدَةً، وَلَكِنَّا نَقُولُ: كَلَامُهُ صِفَةٌ، وَقَدْ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَهِيَ بِالتَّطْلِيقَةِ الْوَاحِدَةِ تَتَّصِفُ بِهِ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا كَلَامَهُ إيقَاعًا لِضَرُورَةِ تَحْقِيقِ الْوَصْفِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِالْوَاحِدَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَبَدًا لَمْ تَطْلُقْ إلَّا وَاحِدَةً بِخِلَافِ قَوْلِهِ: فِي كُلِّ يَوْمٍ؛ لِأَنَّ حَرْفَ فِي لِلظَّرْفِ، وَالزَّمَانُ ظَرْفٌ لِلطَّلَاقِ مِنْ حَيْثُ الْوُقُوعُ فِيهِ فَمَا يَكُونُ الْيَوْمُ ظَرْفًا لَهُ لَا يَصْلُحُ الْغَدُ ظَرْفًا لَهُ فَيَتَجَدَّدُ الْإِيقَاعُ؛ لِتَحْقِيقِ مَا اقْتَضَاهُ حَرْفُ فِي، وَفِي قَوْلِهِ: كُلَّ يَوْمٍ إنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهَا طَالِقٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلِيقَةً أُخْرَى فَهُوَ كَمَا نَوَى، وَتَطْلُقُ ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إمَّا؛ لِأَنَّهُ أَضْمَرَ حَرْفَ فِي أَوْ؛ لِأَنَّهُ أَضْمَرَ التَّطْلِيقَةَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلِيقَةً.
(قَالَ): وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَغَدًا وَبَعْدَ غَدٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهِيَ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ بِوُقُوعِ الْوَاحِدَةِ عَلَيْهَا تَتَّصِفُ بِالطَّلَاقِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَهُوَ كَمَا نَوَى، وَهِيَ طَالِقٌ كُلَّ يَوْمٍ وَاحِدَةً حَتَّى تَسْتَكْمِلَ ثَلَاثًا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ إمَّا؛ لِإِضْمَارِ حَرْفِ فِي أَوْ؛ لِإِضْمَارِ التَّطْلِيقَةِ.
(قَالَ): وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْك مِنْ الطَّلَاقِ، أَوْ مَا لَا يَقَعُ عَلَيْك مِنْ الطَّلَاقِ فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً؛ لِأَنَّ آخِرَ كَلَامِهِ لَغْوٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيمَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا طَلَاقٌ مَوْصُوفٌ بِمَا ذَكَرَ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَا يَقَعْنَ عَلَيْك، أَوْ ثَلَاثًا لَا يَجُزْنَ عَلَيْك فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا؛ لِمَا بَيَّنَّا، وَفِي النَّوَادِرِ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَقْبَحَ الطَّلَاقِ قَالَ: عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَطْلُقُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَطْلُقُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقُبْحَ صِفَةً لِلطَّلَاقِ، وَذَلِكَ هُوَ الطَّلَاقُ الْمُزِيلُ لِلْمِلْكِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: قَدْ يَكُونُ الْقُبْحُ بِالْإِيقَاعِ فِي غَيْرِ وَقْتِ السُّنَّةِ فَلَا تَثْبُتُ صِفَةُ الْبَيْنُونَةِ بِالشَّكِّ.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَأَنَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَالْخِيَارُ بَاطِلٌ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ لِلْفَسْخِ بَعْدَ الْوُقُوعِ لَا لِلْمَنْعِ عَنْ الْوُقُوعِ وَالطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَيَلْغُو شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهِ، وَالْعِتْقُ كَذَلِكَ.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: اذْهَبِي فَتَزَوَّجِي، فَإِنْ كَانَ نَوَى طَلَاقًا فَهُوَ طَلَاقٌ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ مُحْتَمَلٌ فَلَا يَتَعَيَّنُ مَعْنَى الطَّلَاقِ فِيهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمَهَا الذَّهَابَ مِنْ بَيْتِهِ، رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: افْلَحِي أَوْ اسْتَفْلِحِي يَنْوِي بِهِ الطَّلَاقَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: اذْهَبِي؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: أَفْلِحْ بِخَيْرٍ أَيْ اذْهَبْ بِخَيْرٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: اسْتَفْلِحِي؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اُطْلُبِي فَحْلًا فَكَانَ هَذَا، وَقَوْلُهُ تَزَوَّجِي سَوَاءً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.